طباعة هذه الصفحة

جمالية العــرض وعمـق النـص يجتمعـان علـى ركــح “الفرقاني”..

”كرنفال روماني”..بهجة مسرحية بتوقيع موني بوعلام

قسنطينة: مفيدة طريفي

احتضن المسرح الجهوي لقسنطينة “محمد الطاهر الفرقاني” مساء أمس الأول، وفي أجواء احتفالية نابضة بالحيوية والفن، العرض الأولي لمسرحية “كرنفال روماني”، وسط حضور جماهيري لافت ضم عشاق الخشبة من مختلف الأعمار، وجاء هذا العمل المسرحي، الذي أخرجته الفنانة “موني بوعلام” في أول تجربة إخراجية احترافية لها، ليحمل بصمة فنية جمعت بين جماليات العرض وعمق الطرح الدرامي..

المسرحية اقتباس عصري من نص الكاتب المجري “ميكلوش هوباي”، تستعرض بأسلوب ساخر ومؤلم في آنٍ واحد رحلة الانحدار من أضواء الشهرة إلى ظلال النسيان، عبر شخصية “مارجيت” ممثلة مسرحية لامعة في ماضيها، تواجه في حاضرها قسوة التهميش والعزلة في قبو مسرح مهمل، حيث تعيش فقرًا مدقعًا وحياة أقرب إلى النسيان.

حبكـــة مُحكمــة..

تبدأ الأحداث حين يظهر مدير مسرحي انتهازي يسعى إلى استغلال العرض التجريبي الذي يقترحه كاتب مسرحي مرموق، في محاولة يائسة لإعادة إحياء مجده الشخصي، غير آبه بجودة الأداء أو محتوى العمل، يجد في “مارجيت” فرصة ثمينة للنجاح، فيقرر استغلال موهبتها وخبرتها، رغم محاولاته السابقة لتهميشها وبين ممثلين جدد يفتقرون للكفاءة وشغفٍ مسرحي شبه مفقود، تصبح “البروفة” ساحة صراع نفسي وإنساني تكشف عن هشاشة العلاقات، وتفضح نفاق الوسط الفني.

عـــرض غنــي ومؤثــر

تألقت على الركح الفنانة رجاء هواري في تجسيدها لشخصية “مارجيت”، حيث نقلت ببراعة التحولات النفسية العميقة للشخصية بين لحظات الكبرياء والانكسار، ورافقها على الخشبة “شاكر بولمدايس” في دور المدير، إلى جانب نخبة من الممثلين الشباب، من بينهم زاكي وافق، باديس عنانة، ريان حمايدي، فريد زواوي، رشـاء سعد الله، وإسلام حدرباش، الذين شكّلوا معًا فريقًا متناغمًا قدم أداءً جماعيًا متماسكًا.
وأضفت السينوغرافيا التي صمّمتها “شهيناز نغواش” بعدًا بصريًا ثريًا، حيث تنوعت بين العتمة والضوء لتعكس الحالة النفسية للشخصيات، فيما ساهمت الكوريغرافيا التي وقعتها “ندى رويني” في كسر الجمود الإيقاعي، عبر لوحات راقصة ناعمة أدخلت روحًا جديدة على العمل، وجعلت من العرض تجربة ركحية متكاملة تمس الحواس والوجدان.

وفاء للنص وإخـــراج مبتكــر

في تصريح لوسائل الإعلام عقب العرض، عبّرت المخرجة موني بوعلام عن امتنانها للجمهور القسنطيني، معتبرة أن هذا العمل يمثل نقطة انطلاقتها الحقيقية في عالم الإخراج المسرحي بعد تخرجها من الجامعة الفرنسية، وقالت “حاولت أن أستخرج من النص الكلاسيكي لميكلوش هوباي روحًا معاصرة، تلامس جمهور اليوم، وتطرح أسئلة وجودية عن الفن، والهوية، والذاكرة، والخذلان.
«كرنفال روماني” ليس مجرد مسرحية، بل هو دعوة للتأمل في مسار الفنان، وفي العلاقات التي يبنيها والتي غالبًا ما تتكسر على صخرة المصالح والتحولات الاجتماعية، العمل الاخراجي يعتبر عملا يحمل في طياته مرارة الحقيقة وسحر المسرح، ويُعيد إلى الخشبة شيئًا من وهجها القديم.
اعتمدت المخرجة موني بوعلام في أولى تجاربها الإخراجية على مقاربة فنية تزاوج بين الوفاء للنص الكلاسيكي للكاتب المجري ميكلوش هوباي والجرأة في إعادة صياغته ضمن رؤية معاصرة تنطق بلغة المسرح الحديث، وقد صرّحت بوعلام بأنها سعت إلى “كسر القوالب الجاهزة” في معالجة النص، مستندة إلى أدوات ركحية متعددة تسهم في نقل الأحاسيس والمضامين بشكل بصري ووجداني عميق.
تجلّت هذه المقاربة في اعتمادها على الإخراج التفاعلي، حيث بدا أن الفضاء المسرحي يتحول إلى كيان نابض بالحياة، تدفعه الحركة، والضوء، والموسيقى، بل وحتى الصمت المدروس، ليحمل رسائل غير منطوقة، كما راهنت على ديناميكية الجسد، عبر دمج الكوريغرافيا بشكل عضوي في السرد، ما أضفى على المشاهد بعدًا شعريًا، وجعل من بعض الفصول لوحات بصرية خالصة تنقل انفعالات داخلية تفوق الكلمات.
في الوقت ذاته، حافظت بوعلام على عمق الفكرة الأصلية، عبر إبراز التوترات النفسية للشخصيات، لا سيما في شخصية “مارجيت”، واشتغلت على تقنيات التباين بين الضوء والظل، بين السكون والانفجار، لتعكس التحولات الداخلية وتوترات العلاقات الإنسانية، من خلال هذا التوجه، أثبتت المخرجة الشابة امتلاكها لرؤية فنية طموحة، توفّق بين الاحترام للنصوص التراثية وبين حاجات المتفرج المعاصر، في تجربة إخراجية تحمل بصمتها الخاصة وتعد بمزيد من النضج والتفرّد مستقبلاً.

”كرنفــال رومـاني”..نافذة تأويلية

يحمل عنوان المسرحية “كرنفال روماني” في ظاهره طابعًا احتفاليًا، يوحي بالبهجة والفوضى المنظمة، كما ارتبط تاريخيًا بالكثير من الطقوس المسرحية الشعبية التي تُقام في الشوارع، حيث يُقلب الواقع رأسًا على عقب وتسقط الأقنعة مؤقتًا، فالكرنفال هنا ليس احتفالًا بالحياة، بل عرضٌ ساخر لواقع متآكل، تتشابك فيه الكوميديا بالتراجيديا.
أما صفة “الروماني”، فتستدعي أجواء الإمبراطورية حين كانت في أواخر مجدها، مشبعة بالتسلية السطحية والمصارعة من أجل الفرجة، في تلميح مباشر إلى ما يشبه انحدار القيم الفنية وتحولها إلى مجرد استعراض، بهذا المعنى، يصبح “الكرنفال” صورة رمزية للعالم المسرحي الذي تصوره المسرحية فضاء صاخبا، مليئا بالأقنعة، بالمناورات، بالضحك المُر، والاندفاع نحو “البروفة” بأي ثمن، أما “الروماني”، فهو إحالة ضمنية إلى سلطة تُلهي الناس بالفرجة وتُقصي العمق، ما يعكس واقعًا مأزومًا في التعامل مع الفن والمبدعين.
من خلال هذا العنوان، تنجح المسرحية في تقديم مدخل تأويلي ساخر ونقدي، يُمهّد للجمهور رؤية العرض بعين مزدوجة عين تضحك من السطح، وأخرى تبكي في العمق.