طباعة هذه الصفحة

في وثائقي مبتكر عرضته بفضاء بشير منتوري

مزجري تروي حكايات “الخشب” في العمارة الجزائرية

أمينة جابالله

النّحت والنّقش والتّعشيق..لمسات جمالية من عمق الهويّة الوطنية

عرضت الإعلامية سامية مزجري بفضاء النشاطات بشير منتوري وثائقي “الخشب في العمارة الجزائرية..تقاليد وجماليات متوارثة”. وخطت خطوة مبتكرة في تقديم المادة التاريخية والتراثية من خلال اعتمادها على تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يرتقي بأسلوب العرض إلى آفاق حداثية.

 على مدار 34 دقيقة، عرضت مزجري رحلتها في جمع المادة العلمية التي شكلت عملها الوثائقي، والذي يمتد لنحو 52 دقيقة ومقسم إلى جزأين. يكشف الجزء الثاني عن شهادات حية من عائلات جزائرية عريقة تمتهن حرفة صناعة الخشب، وعلى رأسها عائلة بن قرطبي من ولاية المدية، التي يعود لها فضل تصميم وهندسة منبر جامع الجزائر. كما يضم الفيلم تصريحات قيّمة من دكاترة وباحثين متخصّصين في علم الآثار وفن العمارة الجزائرية.
أكّدت مزجري أن هذه الأعمال التلفزيونية تهدف إلى التعريف بثراء التراث الجزائري محليًا ودوليًا وإعادة إحيائه. وأوضحت قائلة: “الخشب شأنه شأن الحجر في العمارة الجزائرية، ليس مجرد مادة بناء، بل هو رمز للتراث والجماليات المتوارثة. إنه جسر يربط بين الماضي والحاضر، ويعكس الفنون والثقافات المتنوعة التي أسهمت في تشكيل الهوية الجزائرية. إن الحفاظ على هذه التقاليد والإبداعات الفنية يضمن استمرار جمال العمارة الجزائرية للأجيال القادمة”.
وأضافت: “الخشب في العمارة الجزائرية يتجاوز كونه مادة، فهو هويّة منحوتة وزخرفة تنبض بالحياة. هذا الوثائقي لا يستكشف الماضي فحسب، بل يطرح أيضًا تساؤلات حول مستقبل هذه الحرفة في الجزائر. وبين يدي الحرفي وروح المعمار، يبقى الخشب شاهدًا على جماليات خالدة وتقاليد متوارثة لا تزول”.
وفي السياق ذاته، أكّد الباحثون الذين استعانت بهم مزجري في الوثائقي على الدور البارز الذي يلعبه الخشب في العمارة الجزائرية، باعتباره عنصرًا أساسيًا يجمع بين التقاليد والجماليات المتوارثة عبر العصور. وأشاروا إلى أنّ استخدام الخشب في العمارة الجزائرية يتميز بتنوعه من حيث الأنواع والتقنيات، ممّا يعكس التأثيرات الثقافية المتعددة التي شهدتها البلاد على مر التاريخ، بدءًا من الفترات القديمة وصولًا إلى العصر الحديث.
تاريخيًا، كما أوضحت الدكتورة ياسمين شايت سعودي والدكتورة فايزة رياش، لعب الخشب دورًا محوريًا في البناء منذ فجر الحضارة الجزائرية. فقد كانت الغابات مصدرًا أساسيًا للمواد اللازمة لإنشاء المنازل والأدوات، ليصبح الخشب رمزًا للراحة والدفء. ومع مرور الوقت، تطور استخدامه ليعكس الفنون المعمارية المحلية، ويتجلى ذلك بوضوح في السقوف الخشبية المنقوشة التي تزين البيوت التقليدية، والتي تعكس مهارات الحرفيين وعراقة المنطقة.
وفي العمارة الجزائرية، كما أشارت الدكتورة أميرة زاتير والدكتور عبد القادر دحدوح، يتعدّى دور الخشب كونه مجرد مادة بناء ليصبح تجسيدًا للتراث والثقافة. فهو يُستخدم في الأبواب والنوافذ والزخارف الداخلية. وأوضحا أن “الأبواب الخشبية المنقوشة تُعد من أبرز سمات الفنون الجزائرية، حيث يولي الحرفيون اهتمامًا بالغًا لإبراز تفاصيل دقيقة من خلال النقوش المعقدة التي تحمل في طياتها رموزًا ثقافية ودينية”.
من جانبهما، شرح البروفيسور مصطفى دربان والنجمة سراج إسهام التقنيات التقليدية في إثراء جماليات الخشب في العمارة الجزائرية، مستعرضين خبرات الحرفيين المتوارثة في تركيب الخشب وصياغته، ممّا يضمن جودة العمل وفخامته. ولعل فن “التعشيق”، الذي يعتمد على تصميم دقيق وتداخل قطع الخشب ببراعة دون استخدام المسامير، يُعد من أبرز هذه التقنيات التي تضفي طابعًا فريدًا على الإنجازات المعمارية.
بالإضافة إلى ذلك، سلّط الدكتور عبد الكريم عزوق الضوء على الأثر الذي أحدثه استخدام الخشب في العمارة الجزائرية، حيث استُغل في إنشاء مساحات داخلية مريحة، خاصة خلال الفترة المرابطية، وفي بناء المنصات والأقواس التي أضفت على البناء لمسة جمالية مميزة. وكمثال على جماليات هذه المادة الحيوية، استعرض نماذج من العمارة المسجدية في الجزائر العاصمة، من بينها منبر الجامع الكبير الموجود في المتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية، المصنوع من شجرة الأرز، والذي صُمّم في أول رجب عام 490 هجري، الموافق 1096 ميلادي.
وفي سياق متصل، استندت مزجري في تقريرها الوثائقي إلى مصادر تاريخية قيمة حول دور الخشب في العمارة الجزائرية، من بينها “مقدمة ابن خلدون” وكتاب “العمارة الإسلامية في شمال إفريقيا” لجورج مارسيه، بهدف إبراز المكانة الهامة لمادة الخشب في أساسيات العمران والهندسة الراقية للعديد من الأبنية الأثرية التاريخية، مثل ضريح إمدغاسن، بالإضافة إلى الوثائق والعقود التي عُثر عليها مكتوبة على ألواح خشبية، مما يدل على الرمزية التي يحظى بها الخشب إلى جانب العمران في التعاملات التجارية وغيرها.
ودعت مزجري إلى تسليط الضوء على فن صناعة الخشب، وما يرتبط به من نقش وحفر ونحت ورسم، بالإضافة إلى رصد التحف النادرة، لتمكين المتلقي من التعرف على حمولتها الأثرية والتاريخية والفنية واكتشافها. وأشارت إلى أنّ السوار الخشبي المصنوع بقفل من ذهب وعليه آثار حروق، والذي عرضته في الفيلم الوثائقي، والموجود حاليًا كتحفة نادرة خارج قائمة المعروضات في قسم خاص بالمتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية، يُعتبر نموذجًا فريدًا يحمل قصة وتاريخًا جديرين بالنقل إلى الأجيال القادمة، بهدف الحفاظ عليه وتثمينه.