طباعة هذه الصفحة

حميد بوحبيب يصدر “لغزّة والياسمين”

الشعر في زمن الحرب..موقــف لا حيـــاد

فاطمة الوحش

صدر عن دار ميم ديوان “لغزّة والياسمين” للشاعر والباحث الجزائري حميد بوحبيب، ليعيد ترتيب مشهد القصيدة العربية من قلب الألم الفلسطيني، رافعا الكلمة إلى مستوى الشهادة لا الترف الجمالي، ومعلنا أن الشعر، حين يكتب في زمن الحرب، لا بد أن يكون موقفا لا محايدا.

يقدم حميد بوحبيب في 123 صفحة، عملا شعريا يخرج من النمطية الجمالية إلى الفعل المقاوم. ليست “غزّة” في هذا الكتاب مجرد جغرافيا، بل كائن لغوي، ناطق بالدم والرماد. وليست “الياسمين” زهرة سلام، بل أثر من رائحة أم فقدت ابنها تحت الركام ولم تجد ما تبكيه سوى ثوبه.
لا يمجد الشاعر في ديوانه القادة، بل يمنح المجد لأولئك الذين يصنعون الحياة تحت القصف: أم تبحث عن أشلاء ابنها، طفل ينقذ دفترا من بين الأنقاض، وخالة تلملم جهاز العرس لتغني لفيروز. في هذا الديوان، تتحول اللغة إلى فعل. الجملة القصيرة ليست رغبة في الإيجاز، بل اختناق لغوي في حضرة القهر، وبلاغة ميدانية ترصد ما لا ترصده نشرات الأخبار.
في ديوانه يكتب: “لأم أيمن تبحث تحت الردم عن الأشلاء كيما يكتمل جسد الشهيد ويرتقي،”
«لأحمد يتعثر على ما تبقى من سلالم العمارة لينقذ كتابًا أو كراسًا أو قلمًا”، “ليلى تلملم ما تبقى من جهاز العرس تحت الأنقاض وتغني لفيروز”.
في هذه الأبيات، يختار حميد بوحبيب أن ينزل البطولة من علياء الرموز الكبرى إلى أرض الواقع، حيث الألم اليومي هو مسرح الفعل الحقيقي. لا أسماء كبيرة، ولا شعارات مدوية، بل وجوه عادية تمارس مقاومة استثنائية في تفاصيلها البسيطة. “أم أيمن” التي تفتش عن أشلاء ابنها لتعيد له جسده، “أحمد” الذي يتعثر فوق السلالم المهدمة لينقذ أداة تعلم، و«ليلى” التي تلملم بقايا الفرح من بين الأنقاض لتغني..جميعهم يشكلون ملامح بطولات خفية، لا تضيئها الكاميرات. هنا، تتحول القصيدة إلى توثيق وجداني لفعل الحياة في قلب الموت، وتعيد تعريف البطولة بوصفها قدرة على الاستمرار، لا على الانتصار فقط.
حميد بوحبيب لا يكتب عن فلسطين، بل من داخلها، من رحم الألم الذي يربطها بالجزائر، البلد الذي ما زالت ذاكرته مشبعة بالثورة والشهداء والدم الطاهر. في الديوان، تتناص القصائد مع المقامات الصوفية، الخطاب القرآني، والتراث الشعبي الجزائري، لتقدم نصا هجينا، ليس أدبا، فحسب، بل وثيقة ثقافية وإنسانية.
«غزّة” ليست مدينة، “غزّة” أمّ ثانية، “غزّة” طفل نائم في خزانة جدته الجزائرية، “غزّة” وشم على جسد الأمة. في هذا المعنى، يتحول الشعر إلى “محضر وجدان”، يدون ما لم تكتبه وسائل الإعلام، ويخلد أسماء الذين لا تكتب أسماؤهم على الجدران.
هذا الديوان لا يخاطب الوعي الجمالي بقدر ما يصدم الضمير، لا يسعى إلى التجديد الفني بقدر ما يطلب المعنى الأخلاقي. إنه بيان لغوي يخلع عن الشعر ثوبه الكلاسيكي، ويلبسه كفن شهيد. قصيدة لا تتلى بل تُبكى. شهادة لا تؤرخ بل تُدين. في زمن تم فيه تحويل فلسطين إلى خبر عاجل، يعيد حميد بوحبيب للمقاومة معناها الأول: “أن تقاوم بالحبر حين يكمم الصوت، وأن تكتب بالقصيدة حين يُصادر المعنى”.
بـ«لغزّة والياسمين”، لا يضع حميد بوحبيب نقطة نهاية لقصيدته، بل يضع فاصلا في سياق أمةٍ تحتاج إلى أن تراجع نفسها. هذا الديوان ليس فقط عملا أدبيا، بل مرآة صدق لما يحدث.
للتذكير، حميد بوحبيب، أكاديمي جزائري، وباحث متخصص في الأدب الشعبي والشفوي، له عدة مؤلفات نقدية، من أبرزها: “الغجري الأخير”، و«مدخل إلى الأدب الشعبي: مقاربة أنثروبولوجية”، و«الشعر الشفوي القبائلي: السياق والبنات والوظائف”. كما ترجم عن الفرنسية كتاب “مدخل إلى الشفوية الشعرية” لبول زومتور.