يرى الروائي محمد جعفر أن الإنسان المعاصر لا يزال يواصل سعيه نحو التمكن والسيطرة على مختلف مجالات الحياة، وقد أصبح من أبرز ملامح هذا السعي محاولاته المستمرة لاستبدال العامل البشري بالآلة. وأوضح أن هذه النزعة التي بدأت في المجالات التقنية والصناعية لم تلبث أن امتدت إلى ميادين تبدو لأول وهلة، عصيّة على المكننة، وعلى رأسها الحقول الفنية والأدبية.
وأشار محمد جعفر إلى أن دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجال الإبداع بات أمرا واقعا، بعد أن كان ينظر إليه منذ وقت قريب باعتباره أمرًا مستبعدا أو حتى مستحيلا. وقال إن ما تحقّق اليوم في هذا المضمار يكشف بوضوح أننا نشهد “ثورة تكنولوجية حقيقية” لا يمكن تجاهل آثارها، مضيفا أن ما تُنجزه اليوم تقنيات مثل “شات جي بي تي” يعيد طرح سؤال المنافسة بين الإنسان والآلة، حتى في مجالات ظلت حكرًا على العقل البشري.
وأكد أن الذكاء الاصطناعي أثبت قدرة متقدمة على إنتاج نصوص أدبية وفنية، غير أن أصالتها ما زالت محلّ تشكيك واسع، سواء من قبل النقاد أو المبدعين أنفسهم. ولفت إلى أن ما تنتجه الخوارزميات لا يعد في نظره إبداعا خالصا، بل هو في الغالب إعادة تركيب لما سبق أن أبدعه الإنسان، بتعديلات تقنية على مستوى الشكل، دون أن تمسّ الجوهر أو تحقق شروط الكتابة الأدبية الأصيلة.
وقال محمد جعفر إن التأليف الأدبي، منذ نشأته، لطالما مثّل مسارا شاقا يتطلب الصبر والمثابرة والتراكم القرائي والنقدي، وأوضح أن المعطيات الجديدة سمحت لكثيرين بالدخول إلى ساحة الكتابة بأقل التكاليف، وهو ما فتح الباب أمام موجة من “الإصدارات السريعة” التي تعتمد كليا على الذكاء الاصطناعي.
ولفت المتحدث إلى أن شريحة واسعة من الشباب باتت تعتمد بشكل شبه كلي على أدوات الذكاء الاصطناعي في كتابة نصوص تُنسب إليهم، وذلك بدافع الرغبة في الظهور والمنافسة، حتى دون امتلاك تأهيل كافٍ في المجال الأدبي، من حيث القراءة أو الممارسة أو التكوين. وأوضح أن كثيرًا من هؤلاء يضعون أسماءهم على نصوص لا تتوافق مع مستواهم الحقيقي في التعبير، ولا تشبه أساليبهم المعتادة، لا سيما تلك التي ينشرونها في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقال الروائي إن هذا التباين الملحوظ بين ما يُنشر من نصوص أدبية وبين ما يُعرف عن أصحابها من مستوى في التعبير، يثير الشكوك بشأن مصدر تلك النصوص، خاصة عندما تكون مكتوبة بلغة مصقولة لا تتناسب مع التجربة الشخصية للكاتب.
ولفت إلى أن بعض هذه النصوص تخلو من أيّ رؤية واضحة أو حسّ محلي، وتستند إلى موضوعات وأجواء غريبة عن البيئة التي ينتمي إليها الكاتب، ما يدل ـ في نظره ـ على تدخل واضح للأدوات الاصطناعية.
وأكد أنه لا يخشى على الإبداع الحقيقي من منافسة الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن الأدب ظل عبر التاريخ مجالا مفتوحا أمام الجميع، وأن النصوص كانت دائمًا تتفاوت من حيث القيمة والعمق والجمال، دون أن يلغي بعضها بعضا. لكنه شدد في المقابل على أن الخطر الحقيقي اليوم يتمثل في الانتحال، حين يقدم أشخاص نصوصا مكتوبة كليا بالذكاء الاصطناعي، ويُظهرونها على أنها نتاج خالص لتجربتهم الشخصية دون الإشارة إلى مصدرها.
وقال محمد جعفر إن تجربته الشخصية كعضو في لجان تحكيم عدة لمسابقات وجوائز أدبية، سمحت له بملاحظة هذا الخطر عن كثب، مؤكدا أن عددا من النصوص المقدمة بدت منذ قراءتها الأولى خالية من أيّ أصالة، وأن فريق التحكيم كان يشك أحيانا عن بيّنة، في أنها منجزة بالكامل بالذكاء الاصطناعي.
وأوضح أن من أبرز العلامات الدالة على هذه النصوص، ما وصفه بـ«البسترة الأسلوبية”، وغياب المجاز اللغوي، وتكرار أنماط لغوية واحدة تقريبًا، إلى جانب تكرار أنواع معينة من الأخطاء النحوية دون غيرها، واختفاء الأبعاد المحلية والثقافية، والنزوع نحو عوالم وبيئات لا تمتّ بصلة لهوية الكاتب المفترضة.
وأشار الكاتب إلى أن الشباب هم الفئة الأكثر استخداما لهذه الأدوات، مرجعا ذلك إلى عدة أسباب منها الفضول التكنولوجي، والرغبة السريعة في تحقيق إنجاز ينسب إليهم، فضلا عن غياب التجربة القرائية والنقدية، وأحيانا حتى غياب الوازع الأخلاقي في الاعتراف بمصدر النصوص.
وفي ختام حديثه، أكد جعفر أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة فعالة في خدمة الإبداع، شرط أن يتم توظيفه في إطار من الشفافية، كوسيلة دعم لا كبديل عن الجهد الإنساني. وقال إن بإمكانه أن يقدّم فائدة ملموسة في تصحيح الأخطاء، وتوسيع المعرفة، واقتراح بدائل نقدية، وحتى في بعض أشكال تحقيق النصوص.