في عوالم آسيا جبار الأدبية، تتجلّى الرواية كفعل مقاومة، و«بوّابة الذكريات” (Nulle part dans la maison de mon père) ليست استثناءً، بل هي تتويج لمسيرتها في تحرير الأصوات المكبوتة..هذا العمل ليس مجرد سرد لقصة، بل هو نبش في طبقات عميقة من الذاكرة الفردية والجماعية، محاولة حثيثة لفك شيفرة الصمت الذي طالما لفّ المرأة الجزائرية في سياق اجتماعي وتاريخي معقد..هنا، تتحوّل الكلمات إلى نوافذ، والذكريات إلى جسور، والتحليل إلى رقصة بين الماضي والحاضر، بين ما قيل وما حُرم من القول.
تُقدّم الرّواية نفسها، منذ عتبتها، كمساحة تأمل عميقة، فهي “بوّابة ذكريات” (في الترجمة العربية) تومئ إلى مدخل روحي وزمني إلى عوالم منسية، وحكايات مدفونة تنتظر من يكتشفها ويُعيد إليها الروح..إنّها ليست مجرد مدخل فيزيائي، بل استعارة لعملية النبش العميقة في الماضي، محاولة لفتح ما كان مغلقًا على الألم والنسيان، لكن العنوان الأصلي بالفرنسية، “Nulle part dans la maison de mon père” (لا مكان في بيت أبي)، يضيف طبقة أخرى من الدلالات الموجعة. فهو يطرق السمع كأنه صرخة وجودية تصف وضع المرأة في فضاء لا يتيح لها “مكانًا” حقيقيًا، سواء كان الفضاء المادي للمنزل الذي يحد من حركتها، أو السرد التاريخي أو الذاكرة الجماعية التي غالبًا ما تُقصي صوتها. هذا التّناقض بين حضور المرأة الجسدي وغيابها الرمزي أو حرمانها من “مكانتها” الحقيقية، هو جوهر الصراع الذي تخوضه الرواية، لتصبح الكتابة هي المكان الوحيد الذي يمكن للمرأة أن تجد فيه ذاتها وحكايتها.
تتردّد في صفحات الرواية أسئلة وجودية عميقة حول طبيعة الذاكرة وعلاقتها بتشكيل الهوية. يفتتح القسم الأول، “شظايا الطفولة”، بسؤال جوهري لا يزال صداه يتردد في كل صفحة: “ترى هل الطفولة سر خفي لا يسمع أم غبار الصمت؟”. هذا التساؤل ليس تأملًا فلسفيًا عابرًا، بل هو المفتاح الذي يشرع أبواب عوالم الرواية، حيث تسعى جبار بكل قواها لاستكشاف ما إذا كانت الطفولة، بما فيها من أسرار وخفايا، مجرد همسات خفية لا تدركها الأذن، أم أنها بقايا متراكمة من الصمت الثقيل الذي طالما كبل النساء والأصوات المهمشة. إنّها محاولة جريئة لنفض غبار هذا الصمت العميق، وإعادة تشكيل “السر” الكامن في أعماق التجربة الإنسانية، لعلّ فيه تكمن بدايات التحرر.
الذّكريــات..شظـايا من واقــع متكــسّر
تعتمد آسيا جبار في “بوّابة الذكريات” أسلوبًا سرديًا متشظيًا، لا يسير على خط زمني مستقيم، بل ينساب ويتكسّر ويمتزج ببراعة فائقة بين السيرة الذاتية، والتاريخ المنسي، والخيال الخصب، والشعرية المكثفة التي تضفي على النص بعدًا جماليًا وفلسفيًا عميقًا. هذا التكسير للسرد ليس مجرد اختيار أسلوبي، بل هو انعكاس واعٍ لطبيعة الذاكرة نفسها التي لا تعمل بشكل تسلسلي ومنظم، بل عبر ومضات متقطعة، وشظايا متناثرة تتجمع معًا لتشكل الصورة الكلية، وهو أيضًا وسيلة لكسر الاحتكار السردي التقليدي، وإفساح المجال لتعدد وجهات النظر والأصوات التي غالبًا ما تُقصى. الرّواية ليست مجرد قصة تُروى؛ بل هي عملية استكشاف ذاتي وجمعي، حيث لا تسرد الكاتبة تاريخها الشخصي بمعزل عن التاريخ الأكبر لوطنها ونساء جيلها، بل يتداخل الاثنان في نسيج واحد لا يتجزأ. إنّها تمزج الماضي والحاضر، الشخصي والعام، لتخلق فسيفساء من الذكريات تتطلب من القارئ مشاركة فعّالة في إعادة تركيب الصورة.
أصــــوات من صلــــب الصّمــــت
تُعد النّساء، بشجاعتهن الهادئة، وصمتهن الذي غالبًا ما يكون أبلغ من الكلام، وآلامهن التي لا تُرى، المحور الأساسي للرواية، فقد كرّست آسيا جبار جل أعمالها للدفاع عن حق المرأة في الكتابة والتعبير، والتحرر من القيود المجتمعية والتاريخية، وهنا، تُقدم شهادة حيّة ومريرة على عوالم نسائية مُغلقة، مُجبرة على الصمت في بيوت الآباء. هذه البيوت التي يفترض أن تكون ملاذًا آمنًا، تتحول إلى سجون رمزية تُقيد فيها الأصوات، فتظل الأم مصدرًا للقصص غير المروية: “أمي التي لا تزال حية ترزق بفضل ربي، بإمكانها أن تشهد على ذلك”، فالشّهادة الشفهية للمرأة، لها وزنها، حتى لو كانت قادمة من خلف جدران الصمت.
تسعى جبار بكل جهدها إلى فتح هذه الأبواب المغلقة، وإعطاء النسوة “مكانًا” حقيقيًا في السرد وفي الذاكرة الجماعية، مُذكرةً بأن أعمق الصمت، يمكن أن يتضمّن حياة وتجارب، ومعاناة تستحق أن تُروى وتُسمع.
تصف جبار الأم بصورة شاعرية، في محاولة لتخطي جدار الصمت: “هذه الأم الحنونة المُنتصبة على رأسها تلك العصافير المصنوعة من الساتان المتوهج، المثار جحة بيضاء، مكَلّلة جبهتها، هي الباسمة ذات العيون المخضبة واللآلئ الفضية التي تبرز وجنتيها”. إنّها محاولة لإعادة صياغة هذه الصور النمطية، ومنح المرأة صوتًا بدلاً من مجرد وصفها بصمت، والاحتفاء بجمالها الداخلي وقوتها الكامنة.
حتى الملابس التقليدية، مثل “الحايك” الذي يغطي المرأة، يتحوّل إلى رمز للصراع بين التقاليد والحداثة، ورغبة المرأة في التّحرر: تتساءل الراوية عن “الخياط” الذي كان يحيك لها “الحايك” وتُعرب عن قلقها..”متى سأوفّق في الخارج في اقتياضها حينما نأخذ في التقدم؟” هذا التساؤل العميق يعكس رغبتها في التحرر من قيود مرئية وغير مرئية، تتجاوز اللباس لتشمل حرية الحركة والتعبير في الفضاء العام..وحتى الجدات اللاتي يفترض أن يكنّ مصدرًا للحكمة والقصص، تضع سطرا تحت صمتهن..تقول: “لكن في أعماق نفسي خلال عقود بعد ذلك: لقد كان انتقالي من البهو إلى النور الشمسي لأول الشوارع – لا يتعلق الأمر بشوارع واد المدينة، كلا، بل المسار المقنن الواقع على الحواف، على امتداد الأطلال الرومانية – مغامرتي الأولى. إن طفولتي متحركة ولكن تحت المراقبة، طفولة أرهقتها مسؤولية غامضة تتجاوزني”. هذا المقطع يُظهر كيف أن الصمت كان مفروضًا على أجيال، وأن التحرر يبدأ بكسر هذا الإرث من الصمت والمراقبة الدائمة.
صراع اللّغــــات..الأجنبـي والآهـات المخفيــة
تبرز الرواية العلاقة المتوتّرة مع اللغة، لا سيما اللغة الفرنسية التي كتبت بها جبار معظم أعمالها، مقابل اللغة العربية الأم، لغة الأجداد والتقاليد. هذا التوتر اللغوي هو بحد ذاته انعكاس للواقع الثقافي والاجتماعي المعقّد الذي خلّفه الاستعمار الغاشم بالجزائر، حيث تصبح اللغة أداة للتحرر والتعبير عن الذات، ولكنها - في الوقت نفسه - قد تكون حاجزًا، وتفرض على الكاتب نوعًا من الاغتراب الوجودي والثقافي؛ لهذا تتحدّث جبار عن هذا الانشطار اللغوي عندما تستحضر صورتها وهي تكتب: “أنا التي تكتب وتنظر والتي تبكي من جديد – أنا التي لم أقو على البكاء للأسف، على الأب الذي سقط دفعة واحدة في حاصبة الشمال على أرض الآخرين”. هنا، الكتابة بالفرنسية تُصبح وسيلة للتعبير عن حزن عميق لم تستطع اللغة الأم التعبير عنه، أو ربما سُكت عنه.
الصراع يتجلى أيضًا في تجربة الراوية التعليمية، حيث تتعلم الفرنسية في المدرسة، بينما لغة الأهل والبيت هي العربية. يُعالج هذا الجانب بشكل مباشر عندما تتحدث عن دور المعلم، الذي هو والدها: “المعلم كان يقول إنه “يحاول جعلهم يتداركون التأخر في اللغة الفرنسية”، إن أولياءهم لا يتكلمون سوى العربية أو الأمازيغية”..هذا يُظهر التحدي الثقافي والاجتماعي الذي يواجهه الأطفال الذين يكبرون في بيئة متعددة اللغات والثقافات، وكيف أن اللغة الفرنسية كانت بوابة مفروضة للمعرفة، بل هي رمز السيطرة الاستعمارية. وتضع الكاتبة يدها على هذا الوضع الصعب، حين تستخدم هذه الازدواجية لتفكيك المعنى وإثراء النص بدلالات متعددة.
الأب.. رمز للسّلطـــة والصّمـت المــوروث
يُقدّم الأب في الرّواية كشخصية معقّدة، لا تُختزل في البساطة، بل تُمثّل السلطة الأبوية والمجتمعية التي تُساهم، بقصد أو بغير قصد، في فرض الصمت على النساء. تتذكر الكاتبة مشهدًا تتساءل فيه عن سبب بكائها في وجود الأب: “لا أدري ما إذا كنت قد مسحت دموعي، غير أن حموضة متعة هذه الدموع ظلت ملتصقة بي”. هذه “الحموضة” تدل على علاقة معقدة بين الأب وابنته، فحتى المشاعر العابرة تترك أثرها. العلاقة مع الأب ليست دائمًا مباشرة، بل تتسم أحيانًا بالصمت المتبادل، أو بالتأثير الذي يمارسه حضوره حتى في غيابه عن الكلام.
الرجال الآخرون في الرواية يظهرون كجزء من بنية اجتماعية تفرض نفسها. عندما تتحدث الراوية عن محاولة تعلم قيادة الدراجة، تذكر القيود المفروضة: “ولكن لم أكن أتخلى عن الرغبة في الاقتراب من الدراجة، سواء بالحيلة أو بالذعر الذي من شأنه أن يثيره في الشيء المرغوب فيه. وحتى السعي إلى المحاولة انعدم. وكأنني رسخت في نفسي بأنني لن أركب الدراجة ما حييت لا في القرية أمام الملأ، ولا في المدرسة وإن بأمر من المعلمة!”. وهذا يوضّح كيف أن نظرة المجتمع الذكوري تفرض قيودًا صارمة على حرية المرأة وحركتها في الفضاء العام، ممّا يعزّز الشّعور بالانحباس.
الكتابـة..فعــل التّحريــر والشّهادة
بالنسبة لآسيا جبار، الكتابة تتجاوز كونها مجرد حرفة أو هواية؛ إنها فعل مقاومة بحد ذاته، وتحرّر من القيود، واستعادة للذات وللكرامة الإنسانية. إنّها وسيلة فعالة لتجاوز القيود التي فرضها التاريخ والتقاليد الصارمة. في فصل بعنوان “كتابي الأول”، تتحدث الراوية عن علاقتها بالكتابة كفعل ثوري يكسر القواعد ويحمل دلالات عميقة: “قبل هذه الرواية المسماة “بدون عائلة”، التي أبكتني كثيرا، وقع بين يدي كتاب آخر لم أقرأه أبدا، أتيت به من المدرسة إلى البيت مظفرة، ولم أره قط بعد ذلك..ولكن إن كنت لم أطالعه بعد، فإنّي مع ذلك ما زلت أستشعر سمكه وسعة حجمه بين يدي”. وهذا لا يعكس العلاقة الحسية بالكلمة المكتوبة فقط، بل يرمز إلى ثقل المعرفة والأسرار التي يمكن أن يحملها الكتاب، وكيف يمكن لمجرد وجوده أن يُحدث تغييرًا. فالكتابة هنا ليست مجرد تسجيل للذكريات، بل هي فعل مقاومة، وتحدٍّ للصمت، وإعادة بناء للهوية، وتصحيح للتاريخ.
جبار ترى في الكتابة الـ “جائزة” التي تستحقها، وهي فعل يسمح لها باستعادة القصص المنسية، ومنح صوت للنساء اللواتي طالما كُنّ مجبرات على الصمت..تقول: “أنا الآن في فترة الاستراحة، في الفناء الثاني، يخطو المعلم “الأهلي”، أي أبي، خطواته المعتادة جيئة وذهابا”، وهو ما يربط بوضوح بين التعليم، والكتابة، والتحرر، وكيف أن التعلم هو بداية لرحلة التحرر الشخصي والمجتمعي.
الذّاكرة والتّاريــخ.. تشابـــك لا ينفصــل
تربط جبار الذاكرة الفردية بالتاريخ الجماعي للجزائر بشكل لا ينفصل. تتداخل الأحداث الشخصية الحميمة مع السياق التاريخي الأكبر للاستعمار وما بعده، ما يجعل الرواية شهادة حية على حقبة زمنية بأكملها..تُشير إلى أحداث مثل “نزول الأمريكان” وتداعياتها، ممّا يوضّح كيف أن الأفراد يعيشون في ظل تحولات تاريخية كبرى تُشكّل وعيهم وتجاربهم، فالذاكرة هنا ليست مجرد استعادة فردية، بل هي عملية جماعية لإعادة كتابة التاريخ من منظور المهمشين، وخاصة النساء..إنّها إحياء للحظات التي سُجلت بصمت، والآن تُروى بصوت عالٍ.
الذّاكـرة المستعــادة مفتــاح الحريّــة
«بوّابة الذّكريات” ليست مجرد رواية؛ إنّها نص حي يتنفس الذاكرة والألم والأمل، وشهادة فنية على قوة الكلمة. عبر سردها المتشظي، لغتها الغنية، وشخصياتها النسائية المعقدة، تُقدّم عملًا أدبيًا يُسهم في فهم أعمق للذاكرة كفعل مقاومة، وللصمت كقوة كامنة تنتظر من يُحررها. إنّها دعوة دائمة للمرأة بأن “تذهب بعيداً” في رحلة اكتشاف الذات والتعبير عن الحقيقة، لتكون الذاكرة المستعادة هي المفتاح لمستقبل أكثر عدلًا وكرامة.
«بوّابة الذكريات” هي رحلة آسرة في أعماق النفس الجزائرية، وفي تاريخ المرأة الذي غالبًا ما يغيب عن السجلات الرسمية، وفي جوهر فعل الكتابة بوصفه شهادة حية على الوجود، وتكريمًا لأولئك الذين عاشوا في الظل. إنّها تذكير بأنّ لكل ذاكرة بوابة، وبأن فتحها يعني تحريرًا لا يمكن إيقافه.