التّكويـن الأكاديمـي حتميـة لا مفـرّ منهـــا للتّفــوّق فــي الأداء
يرى نفطي سالم، خرّيج المعهد العالي للفنون المسرحية، أنّ الكوميديا شكلت منذ البداية أحد المرتكزات الأساسية في المسرح الجزائري، لارتباطها بالذّوق الشّعبي وحاجة المتفرج للفرجة والترفيه. غير أنّها فقدت كثيرا من وهجها، رغم محاولات بعض المخرجين الشباب لإحيائها، معتبرا أن المتفرج الجزائري أصبح يتبع الكوميدي المعروف أكثر ممّا يتابع العرض نفسه، في وقت تعيش فيه الكوميديا محاصرة بين جمهور مشتت وغياب التكوين الجاد، وسط منافسة شديدة من المنصات الرقمية، دون أن تلغي هذه الأخيرة تفوق الممثل المتكون على ما يسمى بالمؤثرين.
أكّد نفطي سالم في تصريح لـ “الشعب”، أن المسرح الكوميدي الجزائري ظل منذ بداياته بسيط اللغة، شعبي التواصل، ناقدا بعمق، ويؤدّي وظيفة مجتمعية لا تخلو من الموعظة رغم خفة الشكل.
واستحضر نفطي الأسس التي تشكّل منها هذا الفن، مشيرا إلى ارتباطه بالحس الترفيهي والبعد الشعبي، بعيدا عن النخبوية والتنظير. حيث قال “إنّ بدايات المسرح الجزائري اعتمدت على الغناء والطرب والفكاهة، وقد أشار إلى ذلك مصطفى كاتب الذي ربط نشأته بعوامل ترتبط أساسا بالذوق الشعبي واللغة الخفيفة، وهو الرأي الذي أكّده علالو (علي سلالي) بقوله إنّه كان يحيي سهرات فنية منوعة سنة 1917 في النادي العسكري، حيث بني لاحقا فندق السفير بالعاصمة”.
وتحدّث نفطي عن تطوّر الفكاهة المسرحية بعد الحرب العالمية الأولى، وأشار إلى “عرض مسرحية الصياد والعفريت لفرقة الزاهية في 16 ماي 1926، وهي مسرحية غنائية مستوحاة من ألف ليلة وليلة، قدّمت في أربعة فصول وخمس لوحات، وحققت نجاحا لافتا”. ولفت الانتباه إلى أهمية بعض الأسماء المؤسسة للمسرح الكوميدي، مثل “رشيد القسنطيني وسلالي علي المدعو شابلان ومحي الدين بشطارزي”، الذين جمعوا بين الكتابة والتمثيل باللهجة العامية، وقدموا ما سمي حينها بـ “المسرح الضاحك”.
ويرى نفطي أن الكوميديا ظلت تؤدي وظيفة نقدية، حيث “كانت تسخر من العادات والتقاليد، لكنها لا تخلو من رسائل تربوية أو مواعظ، وهو ما جعل كثيرا من المؤلفين والممثلين يتخلون عن الفصحى وينزلون بالمستوى الفني إلى الطبقات الشعبية حبا في الهزل والإضحاك، دون إغفال الارتجال”. وأشار إلى “أن من بين الأسماء البارزة في هذا التوجه حسن الحسني المعروف بـ “بوبقرة”، والذي يحمل مهرجان المسرح الفكاهي في المدية اسمه، وهو موعد سنوي تعرض فيه أهم الأعمال الكوميدية ويتوج في نهايته أفضل عرض”.
وأكّد نفطي أن الكوميديا، رغم كل التحولات، ما تزال تحافظ على مكانتها في وجدان المتلقي، ولها امتداد مجتمعي واضح، “إذ تعود الجمهور الجزائري، خاصة محبو المسرح، على هذا النوع من العروض، بينما لا تستهويه الأجواء التراجيدية”.
وفي تقييمه للراهن، أشار نفطي إلى أنّ بعض التجارب الشبابية أعادت نوعا ما وهج المسرح الكوميدي، مثل أعمال محمد شرشال بمسرحية “الهايشة” المقتبسة عن “الديناصور” ليوجين يونسكو، وجمال قرمي في “نزهة في غضب” للكاتب فرناندو أرابال، وعمر فطموش في “يا رجال يا حلاف”، وهارون الكيلاني في “ليلة القبض على جحا”، وهي كلها أعمال عالجت الواقع بأسلوب ساخر، لكنها لم تكن كافية لاسترجاع جمهور المسرح بالكامل”.
كما يرى أن تراجع الإقبال لا يعود فقط إلى ضعف الإنتاج، بل إلى«ارتباط الجمهور بأسماء معينة دون غيرها، مثل عثمان عريوات وصالح أوقروت وكمال بوعكاز ونبيل عسلي في الجيل الجديد، فالجمهور يتبع حس الكوميدي الذي اعتاد على طريقته وارتجالاته”. وعلّق على بروز شخصيات جديدة في المنصات الرقمية، قائلا “إنّ بعضهم وصل إلى الأعمال الدرامية، لكن التكوين الأكاديمي والممارسة فوق الخشبة والتلفزيون والسينما تظل الحكم في التفوق الحقيقي”. ويضع نفطي الكوميديا في سياقها الطبيعي كجنس مسرحي شعبي متجذر، يمر اليوم بأزمة جمهور ومنافسة من الوسائط الحديثة، لكنه “ما يزال قادرا على استعادة بريقه إذا توفّرت الإرادة الفنية، واستثمر في الممثل المتكون والنص الجاد.