طباعة هذه الصفحة

أمسية موسيقية استثنائية بـ “أوبرا الجزائر”

تشايكوفسكي..نوتــات بقــوّة عبقرية الإنسان

فاطمة الوحش

احتضنت أوبرا الجزائر بوعلام بسايح، مساء أمس الأول، أمسية موسيقية استثنائية أحيتها مؤسسة الثقافة والفنون الروسية تخليدا للذكرى 185 لميلاد عبقري الموسيقى الكلاسيكية بيوتر إيليتش تشايكوفسكي، في حفل سيمفوني حمل عنوان “موسيقى تتخطّى الحدود”، وأكّد أنّ الموسيقى قادرة على كسر كل الحواجز، متجاوزة اللغات والخرائط نحو تواصل إنساني خالص.

 جاء هذا العرض ثمرة تعاون بين أوبرا الجزائر والصندوق الخيري الدولي “نادجدا فون ميك”، وبدعم من الصندوق الرئاسي الروسي للمبادرات الثقافية، في إطار برنامج ثقافي دولي يعكس روح الانفتاح والتبادل الفني بين الجزائر وروسيا. وقد نجح الحفل في استقطاب جمهور واسع من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، حيث نفدت التذاكر بالكامل قبل أيام من الموعد.
وحضر الحفل عدد من الشخصيات الرسمية والدبلوماسية، يتقدّمهم القائم بالأعمال لدى سفارة روسيا الفيدرالية وسفير جمهورية الصين الشعبية، إلى جانب ممثلين عن الهيئات الثقافية والمؤسسات الأكاديمية، وجمهور غفير امتلأت به القاعة الرئيسية، ما يعكس تزايد الاهتمام بالفنون الكلاسيكية في الجزائر، ورغبة واضحة لدى الجمهور في الانفتاح على تجارب موسيقية راقية وعالمية.
وتفاعل الجمهور بحرارة مع العروض الأوركسترالية التي قدّمتها نخبة من العازفين الشباب الروس، إلى جانب موسيقيين جزائريين ينتمون إلى مدارس الأوبرا المحلية، وقد اتّسم الأداء بالتماسك والدقة والتعبير العاطفي العميق. تنقّل الحضور عبر لحظات موسيقية متعدّدة، شكّلت جسورًا من التلقي الروحي بين الخشبة والمدرجات، وعبّرت عن طاقة الفن في ملامسة الوجدان دون الحاجة إلى تفسير.
يُعدّ بيوتر إيليتش تشايكوفسكي، المولود في 7 مايو 1840 بقرية فوتكينسك، وتوفّي في 6 نوفمبر 1893 بسانت بطرسبرغ، أحد أعمدة الموسيقى الرومانسية الروسية، وأحد أكثر المؤلفين الموسيقيين تأثيرًا وشعبية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، ولقد ترك بصمة لا تُمحى على المشهد الموسيقي العالمي، محوّلًا أحاسيسه العميقة إلى نغمات ساحرة تلامس القلوب.
على الرغم من موهبته الموسيقية المبكرة، لم يسلك تشايكوفسكي طريق الموسيقى منذ البداية، فقد درس القانون وعمل موظفًا في وزارة العدل، قبل أن يتّخذ قرارًا مصيريًا وهو في الحادية والعشرين، ليتفرّغ بالكامل لشغفه الحقيقي، الموسيقى، ويلتحق بمعهد سانت بطرسبرغ للموسيقى، وكان هذا التحول بمثابة نقطة انطلاق لمسيرة فنية حافلة، تميزت بغزارة الإنتاج وتنوّعه، فقد شملت أعمال تشايكوفسكي كل الأجناس الموسيقية، من الأوبرا إلى السمفونيات، ومن الكونشيرتو إلى موسيقى الحجرة، ومع ذلك، تبقى باليهاته الثلاثة جواهر تاجه، فقد أحدثت ثورة في هذا الفن وأصبحت أيقونات خالدة في تاريخ الباليه العالمي: بحيرة البجع (1877)، الجمال النائم (1890)، وكسارة البندق (1892).
لا تقل سمفونيات تشايكوفسكي شأنًا، فهي تُعتبر من روائع الحقبة الرومانسية. وتبرز بينها السمفونية السادسة في سلم سي الصغير، المعروفة باسم “الباثيتيك” (1893)، وهي تُعد وصيته الموسيقية الأخيرة، بالإضافة إلى السمفونية الخامسة في سلم مي الصغير (1888).
ومن بين أعماله الأيقونية الأخرى التي لا تزال تُبهر الجماهير إلى يومنا هذا، كونشيرتو البيانو الأول في سلم سي بيمول الصغير (1874) الذي يُعد من أكثر كونشيرتوهات البيانو عزفًا في العالم، وكونشيرتو الكمان في سلم ري الكبير (1878)، وافتتاحية 1812 الاحتفالية (1880) الشهيرة بأصوات المدافع، وهي التي تمثّل عبقرية موسيقية ألهمت العالم أجمع، بل ألهمت الدراسات الأكاديمية في كبريات الجامعات بالعالم، كما لا يمكننا إغفال أوبراه الخالدتين يوجين أونيجين (1879) وملكة البستوني (1890).
لم يكن تشايكوفسكي مجرد عازف على وتر واحد؛ فبينما استلهم من التراث الفولكلوري الروسي الغني، كان أيضًا متأثرًا بعمق بالتيارات الموسيقية الغربية، هذا المزيج الفريد من التأثيرات أسفر عن أسلوب مميز، حيث يسود اللحن ويتربع على عرش التكوين، وتُبرز الآلات الوترية ببراعة فائقة، مما يفسر جزءًا كبيرًا من جاذبيته الخالدة.
للإشارة، فقد نظّمت على هامش التظاهرة بأوبرا بوعلام بسايح، سلسلة ورشات تكوينية لفائدة طلبة معاهد الموسيقى وأعضاء ورشات الأوبرا، أشرف عليها أساتذة من مؤسسة الثقافة والفنون الروسية، وتنوّعت بين التدريب على الآلات الكلاسيكية وتقنيات الأداء الصوتي الأوبرالي، في مناخ من التبادل والتوجيه المباشر. كما احتضنت الأوبرا لقاء أكاديميا خُصّص لقراءة ملامح التجربة الإبداعية لتشايكوفسكي من منظور فني وإنساني، وفتح آفاقا لفهم تأثير الظروف النفسية والاجتماعية في تشكيل صوته الموسيقي الخاص.