سـؤال الذكاء الاصطناعي يتجدّد و”الكيان” الرقمي عدو جديد!
تصوير “خرافي” ومشاهد أسطورية في سرد روائي محكم
منذ عام 1996، ارتبط اسم «إيثان هانت» بالخيال السينمائي العالمي كرمز للمستحيل الممكن، وللجاسوسية التي تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة إلى تخوم الأسطورة.. واليوم، ومع صدور الجزء الثامن من السلسلة تحت عنوان «Mission: Impossible – The Final Reckoning»، يجد الجمهور نفسه أمام فصل لا يكتفي بإغلاق دائرة الحكاية، بل يطرح أيضا أسئلة جريئة عن مصير الإنسان في مواجهة الذكاء الاصطناعي، وعن نهاية أسطورة «توم كروز» نفسه كبطلٍ سينمائي لا يعرف حدود الجسد ولا قيود الخوف.
جديد توم كروز من إخراج كريستوفر ماكوايري، وكتابته مع إريك جندرسن، ليس مجرد تتمة لـ»Dead Reckoning Part One»، بل هو تتويج لرحلة امتدت ما يقارب ثلاثة عقود، لعب فيها البطل المضاد للجاذبية الدور ذاته بإصرار نادر في تاريخ السينما. ومع ميزانية قاربت 400 مليون دولار، صُنف العمل كأحد أضخم الإنتاجات في تاريخ هوليوود، ما جعل اللهفة إلى متابعته جماهيرية، دون أن يغفل النقاد عنه.
ولقد تميز جزء «المواجهة الأخيرة» أو «الحساب الأخير»، بأنه يخضع السلسلة في قلب سؤال العصر: كيف يواجه الإنسان آلةً عاتية بلا قلب ولا رحمة؟.. الكيان «The Entity»، وهو ذكاء اصطناعي متمرد، يتجسد كعدو لا يُرى.. عدو بلا ملامح ولا انفعالات، لكنه قادر على السيطرة على الأنظمة النووية العالمية، وتغيير موازين القوى في العالم.. معركة توم كروز إذن، لم تعد ضد دول أو جواسيس منشقين، مثلما كان يفعل في الأجزاء السابقة، وإنما ضد مفهوم تجاوز هيمنة البشر.
الإبهار مقابـل الـــدراما
تبدأ الحكاية بعد شهرين من أحداث الجزء السابق، حين يتلقى إيثان هانت رسالة من الرئيسة الأمريكية، تخبره بأن «الكيان» لم يتوقف عن التوسع والسيطرة، بل صار مدعوما بجماعة دينية مهووسة بفكرة نهاية العالم.. طبعا، الرسالة تحترق تلقائيا على الفور – كما تقتضي العادة - ويجد إيثان نفسه أمام خيار مستحيل: تسليم المفتاح الذي حصل عليه أو مواصلة المعركة.
يحرص الفيلم على تقديم تصاعد درامي متوازن: من لندن إلى جليد بيرنغ سي، ومن مختبرات سرية إلى غواصة روسية غارقة.. كل موقع تصوير يمثل طبقة جديدة من الصراع، سواء كان صراع الإنسان مع التكنولوجيا، أو مع الخيانة، أو مع ذاته.. ورغم وفرة مشاهد الحركة، إلا أن الفيلم يمنح لحظات عاطفية مؤثرة، أبرزها تضحية «لوثر» بنفسه (مرافق إيثان في معظم الحلقات)، وهي لحظة تلخص فلسفة «المهمة المستحيلة».. لا بطولة بلا ثمن.
في المشهد الأخير، حين يواجه إيثان غابرييل فوق طائرة ثنائية السطح في مطاردة جوية مستحيلة، يلخص الميثولوجيا التي صنعتها السلسلة.. مستوى من الخيال لا يلغيه الوعي بأنه مستحيل، بل يعمّقه، وهنا تتجلى عبقرية توم كروز الذي يصرّ على أداء المشاهد بنفسه، ليعطيها طابع الواقعية حتى في قلب المستحيل.
من البطل الفرد إلى الإنسان المرهق
في هذا الجزء، لا يظهر إيثان هانت كآلة لا تُقهر، بل يقدم صورة إنسان مثقل بسنوات من التضحية والخيانة والخسارة، فالوداع الذي يرسله له رفيقه «لوثر»، يعكس إدراكه لثقل المهمة التي تحمّلها طوال حياته، وكأن الفيلم أراد أن يقول: كل بطل ينتهي، لكن الأسطورة تبقى.
في المشهد الذي تُسلم «غريس» مفتاح «الكيان» لإيثان، قبل أن يتفرق الفريق، يرسخ رمزية الانتقال من جيل إلى آخر. وكأن السلسلة تختم رسالتها قائلة: البطولة ليست في الفرد، بل في الجماعة التي تتناوب على حمل المشعل.
رمزية الذكاء الاصطناعي
من أبرز أبعاد الفيلم أن العدوّ هذه المرة ليس جيشا ولا زعيما، ولا جماعة خونة، بل الذكاء الاصطناعي المتمرد، فـ»الكيان» ليس مجرد أداة درامية، بل انعكاس مباشر لمخاوف القرن الحادي والعشرين، خاصة وأن السؤال المهيمن على الفكر الإنساني حاليا، يتعلق بـ»سيطرة الآلة على القرارات المصيرية»، وتحولها إلى «خصم يتجاوز إدراك الإنسان».
حين يخاطب «الكيان» إيثان بصوت رقمي بارد، متوعدا بنهاية البشرية، يجد المشاهد نفسه أمام مرآة لجدل عالمي: هل ما نشهده في الذكاء الاصطناعي مجرد تقدم علمي أم بداية لفقدان السيطرة؟.. بهذا، يسجل الفيلم نقطة تفوق على أفلام الجاسوسية الكلاسيكية، لأنه يستبدل «العدو المرئي» بعدو غير ملموس، أشبه بشبح يتسرب إلى كل نظام وقرار، عبر الأثير وفي ثنايا الكوابل، ويحتل الهواتف والحواسيب، ويتسلل إلى ما لا يخطر على بال بشر..
الإنتـاج.. مجازفـــة أم جــرأة؟!
بميزانية قاربت 400 مليون دولار، كان على «المواجهة الأخيرة» أن تقدم كل شيء: الإثارة، التقنية، الإبهار البصري، والإشباع الدرامي. ولقد نجح توم كروز في ذلك، ولم يلق بأمواله جزافا، فكروز هو المنتج المغامر الذي نجح إلى حد بعيد، بفضل تصوير «خرافي» امتد بين إنجلترا، مالطا، جنوب إفريقيا، والنرويج.
لكن هذا السخاء الإنتاجي يطرح سؤالا نقديا: هل يمكن أن تبقى السينما فنا حين تُثقلها حسابات الأرباح؟ الفيلم، رغم إيراداته الضخمة (596 مليون دولار حتى الآن)، يكشف عن معادلة معقدة: الجمهور يريد الإبهار، لكن النقاد يبحثون عن العمق. ومع أن المخرج ماكوايري حاول الموازنة بين الاثنين، إلا أن بعض المشاهد طغى فيها الجانب الاستعراضي على البعد الدرامي.
كـروز يـــودّع الأسطـورة
الأهمية الكبرى للفيلم لا تكمن في قصته فقط، بل في كونه المحطة الأخيرة لتوم كروز في دور إيثان هانت.. هذا الممثل الذي جاوز الستين، ظل يقاتل الجاذبية وقوانين الفيزياء ليُثبت أن السينما لا تُقاس بالعمر، بل بالشغف.
إن وداعه لهذا الدور ليس مجرد خروج ممثل من سلسلة، بل هو لحظة انتقالية في تاريخ هوليوود، فقد وضع كروز تقليدا جديدا في العمل الفني، إذ يمثل النجم الذي يتحول إلى منتج للمخاطر، رافضا الاستعانة بالمؤثرات الرقمية حيث يستطيع جسده أن يتحمل التجربة.
استقبال نقدي وجماهيري
الفيلم عُرض لأول مرة في طوكيو في الخامس من ماي المنصرم، ثم في مهرجان كان يوم 14 ماي، حيث لاقى إشادة واسعة بكونه «نهاية ملحمية لسلسلة استثنائية».. أما على المستوى الجماهيري، فقد حقق أعلى افتتاحية في تاريخ السلسلة، ما يدل على أن الجمهور لا يزال يرى في إيثان هانت بطلا يتجاوز الزمن، غير أن عددا من النقاد وضعوا سطرا تحت طول الفيلم (170 دقيقة) وكثرة شخصياته الثانوية، معتبرين أن التضحية ببعض الخطوط السردية، كان سيمنح العمل تركيزا أكبر، ومع ذلك، يكاد الإجماع ينعقد على أن الفيلم حقق معادلة صعبة: إرضاء الجمهور العريض مع تقديم رسالة فلسفية عن نهاية الإنسان أمام ذكائه الاصطناعي.
وسجل الناقد روجي إييبار (Roger Ebert) أن الفيلم يمتد لوقت طويل جدا، ويتنوع بين مشاهد قوية مثل الغوص تحت الماء والمطاردة الجوية، وبين فتراتٍ تقطع التعب والإرهاق الحواري، وقال إنه «يبدو كعرضٍ لأعظم أشكال «المهمة المستحيلة»، لكنه بعد أن يرفع التحدي السردي، يتحول إلى فيلم حرب باردة هائل، تتخلله طلبات أخلاقية متأرجحة تتناول النووي، والقيادتين السياسية والاستخباراتية»
ويضيف: «مشهد الغواصة يعادل في عبقريته البصرية أعمالًا مثل A Space Odyssey أو Inception، كما أن مطاردة الطائرة الثنائية تُعد من أروع مشاهد السلسلة، والبقاء واقفًا بعد مشاهدتها تحدٍ حقيقي»، ليختم بقوله: «الفيلم يبدأ بطيئا جدا.. افتتاحية طويلة تشبه «Previously On»، لكنه يستعيد نفسه لاحقًا بفضل لقطات تحت الماء وفي السماء، تجعل المشاهد يتجاهل كل ما مر عليه».
وليس يفوتنا تسجيل أن التقييمات النقدية لم تأت متماسكة في معظمها، فقد نشر موقع Polygon قراءة نقدية لعمل توم كروز، قال فيها إن الفيلم «يُقدّم بعض أعظم مشاهد الحركة في السلسلة، لكنه يُعاني من حبكة مزدحمة، وتطور شخصيات بطيء، وتهديد الكيان يتسم بالتجريد.. لا تهديد واضح كما في الخصوم البشر السابقين»، بينما تعترف آن هورنادي (Ann Hornaday) في الـ»واشنطن بوست» أن الفيلم «يجسّد معالم السلسلة..الإثارة، الفكاهة، العاطفة..»، وتستدرك قائلة بأنه يتميز بـ»سوء التوازن بين المشاهد الحركة والتمهيد الزائد».
دلالات سيـاسيــة وفكريــة
لا يمكن قراءة فيلم توم كروز الجديد، بعيدا عن سياقه العالمي، فـ»الكيان» هنا ليس مجرد خصم خيالي، بل رمز لهيمنة التكنولوجيا على القرار السياسي والعسكري، وحين يتلاعب الذكاء الاصطناعي بالأنظمة النووية، يطرح الفيلم سؤالا وجوديا: من يحكم العالم فعلا، الإنسان أم الخوارزميات؟ إضافة إلى ذلك، يبرز الفيلم صراعا بين القوى الكبرى، من روسيا إلى الولايات المتحدة، حيث الغواصة الغارقة في قاع المحيط ليست سوى استعارة عن بقايا الحرب الباردة التي لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات الدولية.
بــين الحساب النهائـي والذاكرة الجماعية
في النهاية، يقدم فيلم «مهمة مستحيلة» أكثر من خاتمة لسلسلة سينمائية، فهو عمل يقف على تخوم الأسطورة والتكنولوجيا، بين الحنين إلى بطلٍ جسّد المستحيل، والخوف من مستقبل قد تتحكم فيه آلة لا تعرف الرحمة.
لقد كتب كروز وماكوايري عبر هذا الجزء شهادة ميلاد جديدة للسينما الاستعراضية، كما وقّعا شهادة نهاية مرحلة كان البطل الفرد فيها محور كل الحكاية، وهو ما ذهبت إلى «الغارديان» حين وصفت الفيلم بأنه «شهادة زمنية. بين المناظر الخلّابة، والمطاردات المذهلة، ختم فيها توم كروز فصولًا من بطولة جسدية متجاوزة للعمر والرقبة في رواية طبعها بالغموض والإثارة، لكنه تخلى عنها العرض الهادئ للحبّ والموت والإخلاص، خاصة مع رفيقه من لوثر وفريقه، وأضافت أن كروز بدا «…كما لو أنه يتعلّق بجناح طائرة تقليدية في السماء، كأنه يُقاوم الجاذبية، والأساطير، والزمن، حتى إننا سنرى الجمهور يهمس.. هل اكتملت المهمة؟».
مع إسدال الستار، يبقى السؤال معلقا: هل انتهت «المهمة المستحيلة» حقا، أم أن السينما ستجد دائما سببا جديدا لتجعلنا نؤمن بالمستحيل؟