طباعة هذه الصفحة

أنتوني هوبكنـز يبـدع حتـــى بصوتـه..

“العالق”.. جحيــم في أربعـــة أمتار مربعة..

كتب: محمد لعرابي

سـؤال “العدالـة” في الواقع الاجتماعي المعاصر.. بين المهيمـن والتابــع 

إيـدي ولارســـون.. مواجهة لا تعرف بريئا مطلقا ولا مذنبا خالصا

 أصدر المخرج ديفيد ياروفسكي، صاحب فيلم “Brightburn” المثير للجدل، عملا جديدا يسعى فيه لإعادة تعريف أفلام الإثارة النفسية من خلال “الحبس المكاني” والتكنولوجيا المتطورة، فاختار “Locked” (المعروف باسم “Piégé” في الأسواق الفرنكوفونية)، وهو الذي وجدنا أن ما يعبر عنه – في اللغة العربية – بشكل أكثر قربا، هو عنوان “العالق”، ذلك أنّ الفيلم يروي قصة إيدي (بيل سكارسغارد)، لصّ سيارات عاطل عن العمل، يحاول جهده كي يعيل ابنته سارة، ولا يجد من وسيلة سوى العودة إلى “السرقة”، وعندما يحاول سرقة سيارة دولوس الفاخرة - وهي في الحقيقة لاند روفر معدلة - يجد نفسه محبوسا بداخلها، فتتحول إلى سجن تكنولوجي متطوّر، يسيّره المالك الغامض، وليام لارسن (أنتوني هوبكينز)، لتبدأ لعبة نفسية معقدة تهدف إلى تعليم اللّص “عواقب قراراته”.

  الفيلم “العالق” الذي اعتبره كثيرون “إعادة” (Remake) الفيلم الأرجنتيني الناجح (4x4 2019)، استقطب اهتمام النقاد منذ الإعلان عنه، لأنه جمع بين ثقل اسم هوبكنز، وتجربة سكارسغارد المكثفة، ضمن إطار سردي مغلق يكاد ينحصر في أربعة أمتار مربعة. ومع ذلك، لم تخلُ ردود فعل النّقاد من انقسام حاد: بين من عدّه “تجربة عبقرية”، ومن رأى فيه “مسرحية مطولة تفقد أنفاسها في منتصف الطريق”.
يبدأ الفيلم بوعد جذاب، ثمّ يرفض (تقريبا) أن يذهب إلى أي مكان”، فهو يتواصل في “السيارة”، ولا يتصاعد السّرد إلا من خلال الوسائل التكنولوجية التي تحفل بها الـ(دولوس) الفاخرة.. ينطلق “العالق” بحكاية بسيطة.. إيدي يسطو على سيارة “Dolus” الفارهة التي أعيد تصميمها من Land Rover. غير أنّ لحظة دخوله تتحول إلى كابوس، فالسيارة مجهّزة بتقنيات ذكية تسمح لصاحبها ويليام لارسون بالتحكم الكامل فيها عن بُعد: الأبواب مغلقة، النوافذ محصنة، والأنظمة الإلكترونية تتولى الحراسة التي لا يمكن اختراقها بأي شكل.. حتى صوت العالق وهو يصرخ، لا يصل إلى المارة.
أما لارسون، فهو ليس مجرّد مالك ساخط بسبب تعرّضه للسرقة، ولكنه رجل مصمّم على الإنتقام من لصوص السيارات، بعد أن فشلت الشرطة في حمايته، لهذا يستعمل سيارة مجهّزة بكاميرات داخلية ومكبّرات صوت، ويبدأ حوارا غريبا بين “السيد الحر” خارج السيارة و«السجين” العالق بداخلها، وسرعان ما يتحول الموقف إلى مواجهة وجودية: هل ينجو اللّص؟ أم ينهزم تحت ضغط عقلية انتقامية بارعة في التعذيب النفسي؟
ورغم أنّ لارسون (هوبكنز) لا يظهر ماديًا إلا في مشاهد قليلة، فإنّ أداءه الصوتي يحكم الإطار السّردي بكامله. حتى أنّ هناك في “النقاد من وصفه بأنه “يحول كل جملة إلى مقصلة، وكل كلمة إلى سكين”.. حضوره يشبه “ظلًّا ثقيلاً” يجثم على البطل، فلا يترك له لحظة استرخاء”، ولا شكّ أنّ خبرة هوبكنز الواسعة في تجسيد الشخصيات المظلمة والمعقدة، تظهر بوضوح في تعامله مع هذا الدور.. صوته المميز يحمل طبقات من التهديد والسخرية والتلاعب النفسي، ما يخلق توتراً مستمراً حتى في أثناء غيابه المرئي.. بل ربما نقول إنّ غيابه أضفى على المشاهد روعة غير متوقعة، إذ يرفع (أدرينالين) المشاهدين بثقة قلّ نظيرها لدى الممثلين العالميين.
سكارسغارد، بدوره، نجح في تجسيد الانهيار النفسي التدريجي، إذ نراه ينتقل من السخرية والتمرّد في الدقائق الأولى، إلى الذعر والندم واليأس مع مرور الزمن، ولقد أثنى نقاد كثيرون على أدائه واتفقوا على أنه: “تمكّن من تحويل أربعة أمتار مربعة، إلى عالم كامل للانهيار الإنساني”، وهو ما حدث بالفعل، إذ تحمّل سكارسغارد المسؤولية الأكبر في الفيلم، وظل مقنعاً ومؤثراً وهو محاصر في تلك المساحة الضيقة في معظم الوقت المخصّص للفيلم.
تقييمات إحصائيــة
  حقّق الفيلم تقييمات متوسطة في المواقع المتخصّصة. وقد تحصل – عموما - على نسبة 65 بالمائة نقدا إيجابيا، وهي نسبة تشير إلى استقبال إيجابي معتدل من النقاد المحترفين، أما فيما يخصّ الإيرادات (الشباك) فهي لم تكن كبيرة – مثل أفلام سابقة نشرنا قراءات فيها – إذ حقّق “العالق 1.6 مليون دولار في الولايات المتحدة وكندا، و2.5 مليون في الأسواق الأخرى، بإجمالي عالمي قدره 4.1 مليون دولار”. وهذه أرقام تعكس طبيعة الفيلم كعمل محدود الانتشار موجه لجمهور متخصّص.

الحبكــة والخلفيـة الفلسفية

 لم يسلم “العالق” (Piégé) من المقارنات مع أفلام سابقة كرّست مفهوم “الفضاء المغلق”، ففي فيلم Buried لروبيرتو كورتيس، حُبس البطل في تابوت تحت الأرض، ومع ذلك ظلّ التوتر متصاعدًا بلا توقف حتى النهاية، أما في سلسلة Saw، فقد بلغ التعذيب النفسي والجسدي حدودًا قصوى تضع المشاهد في موقع الضحية، غير أنّ “العالق” يتأرجح بين النموذجين، فهو لا يبلغ وحشية Saw، مثلما لا يحتفظ بإيقاع متماسك مثل Buried، وهذا ما جعل عددا من النقاد يعتبرونه “وسطياً”، أي أنه لم يجرؤ على الذهاب بعيدًا في أقصى إمكاناته، غير أنّ أنصاره يردون بأنّ “التوازن” ميزة في حدّ ذاته، لأنه يسمح للفيلم بالوصول إلى جمهور أوسع، دون أن يتحول إلى “تجربة نخبوية” أو إلى “مجزرة دموية بلا معنى”.
ولعل الخلفية الفلسفية التي يضمرها “العالق”، هي التي تجعله مستحقا للنقاش، بل يمكن أن يشعل نقاشا قويا حول بنيته الفنية، ومنطقه الفلسفي، فمن يشاهد “العالق”، يجد نفسه – في لحظة ما – أمام سؤال بالغ القسوة: هل إيدي، اللّص العالق في السيارة، ضحية نظام مهووس بالانتقام؟ أم أنه مجرم يستحق العقاب؟.. علما أنّ هذا السؤال “الصعب” يتردّد في الأعمال الفنية الكبرى، وهو الذي حرّك أطروحة رواية “البؤساء” لجان جاك روسو حين أوقع قارئه في “محنة” التعاطف مع “جان فالجان” مع أنه لا ينكر أنه “سرق”.
السؤال إذن يتجاوز حدود الشاشة، لأنه يلامس جدلاً عالميًا حول “العدالة الخاصة” و«القانون الموازي”. ولا شكّ أنّ الفيلم يضع مشاهده في “منطقة رمادية”، حيث لا براءة تامة.. المالك الذي ينتقم مهووس بالسيطرة، ولكنه مسروق في الأخير، واللّص الذي عانى من حياة الشوارع، ليس شيطانًا بإطلاق، ولكنه يبقى لصّا.. وينبثق الجدل من هذه الثنائية الأخلاقية التي تمنح الفيلم قيمة تتجاوز حبكة “اللّص المحبوس”.
أما “السيارة”، فهي لا يمكن أن تمثل “المركبة الفارهة” وحسب، ولكنها “استعارة شاملة”، فقد تختزن رمزية “النظام المغلق” الذي يتحكّم في مصائر البشر ببرودة التقانة، وهناك في النقاد من تمثل فيها صورة لـ«مجتمع المراقبة”، حيث لا مهرب من أعين الكاميرات ولا من قبضة التكنولوجيا.. كل زرّ في لوحة القيادة هو قانون، وكل قفل إلكتروني هو قاضٍ، وكل نافذة مصفّحة هي حدود العدالة المعاصرة.بهذا، يتحول الفيلم إلى نقد غير مباشر لعصر الرقمنة المطلقة التي يمكن أن تحوّل جهازنا الذكي، أو سيارتنا الفارهة، أو حتى بيتنا، إلى “قبر” نُسجن فيه بلمسة زر من متعجرف مجهول.

مــأزق الإيقاع..حـين يفقد التوتـــر أنفاسـه

 إذا كان التوتر هو عصب أفلام التشويق، فإنّ “العالق” يعاني من تذبذب في هذا الإيقاع، فبينما يشتعل الفيلم في بدايته بجو خانق، ينخفض المنسوب في منتصفه بسبب الإطالة وتكرار المشاهد، ويبدو أن المخرج ياروفسكي ضحى بالتصعيد لصالح “التفلسف”، أي أنه منح الأولوية في عمله للسؤال الفلسفي على حساب دينامية الأحداث، ونعتقد أنّ هذا يحسب له، فالأفلام التي تبقى في التاريخ، هي تلك التي تستند على خلفية فلسفية متماسكة، وإن كان المدافعون عن “الدينامية” يجدون بعض “البطء المقصود”، الذي لا يقصد إلا لجعل المشاهد يعيش معاناة الانتظار القاتل التي يعيشها البطل، وهذا يعني أنّ “الملل” ليس خللًا، بل هو جزء من التجربة الوجودية التي يفرضها الفيلم.. وهنا بالضبط تكمن المفارقة: ما يعتبره هذا ضعفًا، يراه ذاك قوة..

براعـة واقتـــدار..

 ولا شكّ أنّ بيل سكارسغارد وأنتوني هوبكنز يبثان الحياة في شخصياتهما بأداءات رائعة، مع الإشارة إلى أنّ “التطورات والانعطافات المستمرة تجعل القصة غير متوقّعة ومسلية”، فهي ثابتة في فضاء مغلق يُحاصَر فيه إيدي، رجل الطبقة المتواضعة، ليواجه ويليام لارسون، الرأسمالي العجوز، وتتحوّل هذه المواجهة بين شخصين ينتميان إلى عالمين متناقضين بسرعة إلى صورة مصغّرة لعدم المساواة الاجتماعية التي تمزّق المجتمع، مع ما يعتريها من “حق” للارسون، و«باطل” لإيدي، وفق القوانين المتعارف عليها.
هو توتر وجودي بين طبقة مهيمنة وأخرى مقهورة، فمن جهة، يجسّد ويليام النخبة الرأسمالية وقد جرّدتها الثروة والسلطة من إنسانيتها، بينما يمثل إيدي الطبقة العاملة المهمّشة، فهو يكافح من أجل البقاء في نظام يتجاهله، لتتحول حوارات الغريمين وتفاعلاتهما، الجسدية واللفظية، إلى ساحة مواجهة لا تدور فقط بين فردين، بل بين رؤيتين متناقضتين للعالم.
إنّ طبيعة الحبس داخل السيارة تعمّق هذا الصراع، وتعمل كفخّ للشخصيات، وكاستعارة للمجتمع في آن واحد، فالفضاء الضيق يعزّز فكرة “الاغتراب”، حيث يجد كل طرف من الطرفين نفسه أسيرًا لدور اجتماعي مفروض مسبقا، بحكم موقعه الاقتصادي، غير أنّ “العالق” لا ينزلق إلى تبسيط ثنائي أو إلى شيطنة أحد الأطراف، بل يسعى إلى استكشاف تعقيد هذه العلاقات السلطوية، فرغم تعاطف المشاهد مع إيدي، فإنه قد يجد نفسه أيضًا متفهّمًا - بل وربما مقتنعا - بالمنطق الذي يوجّه لارسون.الإخراج، بلقطاته الضيقة وإضاءته الباردة، يضاعف منسوب التوتر بين البطلين، وتصبح السيارة، وقد ضُيّق إطارها باستمرار عبر زوايا تصوير خانقة، رمزًا لنظام رأسمالي يحتجز الأفراد داخل مواقعهم الاجتماعية، سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء. وتضيف الأداءات التمثيلية، وخاصةً براعة هوبكنز، عمقًا إضافيًا لهذه المواجهة، حيث لا يقتصر العنف على البعد الجسدي، بل يتخذ بعدا أيديولوجيا صارخا.
إنّ “العالق” يطرح سؤال البنى الاجتماعية والاقتصادية التي تتحكّم في حياة الناس، ويتناول مواضيع اللامساواة الاجتماعية، وصراع الطبقات، بذكاء وجرأة، دون أن يقدّم حلولًا جاهزة، بل على العكس، يدفع المشاهد إلى التفكير في القوى الخفية التي تحدّد مصائرنا، وفي علاقات السلطة التي تنبثق منها.. وهكذا، بعيدًا عن الرؤية التبسيطية، ينجح الفيلم في تصوير عالم يظلّ المضطهِدون والمضطهَدون عالقين في علاقة مركّبة، يطبعها الإغتراب وتغذّيها معركة البقاء.