تواجه الملكية الفكرية تحديات جديدة سبّبتها الثورة التكنولوجية. وفيما أسهم العصر الرقمي في توسيع دائرة الإنتاج الثقافي والفني والمعرفي، فإنّه ألقى بظلال من التحديات القانونية والأخلاقية على منظومة الحماية التقليدية للملكية الفكرية. من هنا، تبرز الحاجة الماسّة إلى إعادة التفكير في الأطر الناظمة لهذه الحقوق، بما يوازن بين حرية الوصول إلى المعرفة من جهة، وصون الحقوق المشروعة لأصحاب الإبداع من جهة أخرى.
تعد الملكية الفكرية محورا مهما في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة، حيث تواجه تحديات وفرصًا جديدة في العصر الرقمي. فالتطور التكنولوجي الرقمي أتاح للمبدعين الوصول إلى أسواق أوسع، لكنه في الوقت ذاته سهّل نسخ المحتوى الرقمي وتوزيعه دون إذن، ممّا يشكّل تحديًا لحماية الملكية الفكرية.
ما هي الملكـية الفكريــة؟
تعرّف المنظمة العالمية للملكية الفكرية «ويبو»، وهي وكالة متخصّصة تابعة للأمم المتحدة، تعرّف الملكية الفكرية بأنها «إبداعات العقل من اختراعات ومصنفات أدبية وفنية وتصاميم وشعارات وأسماء وصور مستخدمة في التجارة».
ووفقا للمنظمة، فإنّ الملكية الفكرية محمية قانونا بموجب حقوق منها البراءات وحق المؤلف والعلامات التجارية التي تمكّن الأشخاص من كسب الاعتراف بابتكارهم أو اختراعهم أو فائدة مالية نظيرها. ويرمي نظام الملكية الفكرية، من خلال إرساء توازن سليم بين مصالح المبتكرين ومصالح الجمهور العام، إلى إتاحة بيئة تساعد على ازدهار الإبداع والابتكار.
أنــواع الملكيـة الفكريــة
توجد ستة أنواع للملكية الفكرية، هي حق المؤلف، وبراءات الاختراع، والعلامات التجارية، والتصاميم الصناعية، والمؤشرات الجغرافية، والأسرار التجارية.
حق المؤلف: هو مصطلح قانوني يصف حقوق المبدعين في مصنفاتهم الأدبية والفنية. وتشمل المصنّفات المحمية بحق المؤلف أنواعا كثيرة انطلاقا من الكتب والموسيقى واللوحات الزيتية والمنحوتات والأفلام، ووصولا إلى البرامج الحاسوبية وقواعد البيانات والإعلانات والخرائط والرسوم التقنية.
بمعنى آخر، باستخدام حق المؤلف، يمكن حماية: المصنفات الأدبية مثل الروايات وقصائد الشعر والمسرحيات والمصنفات المرجعية ومقالات الصحف، والبرامج الحاسوبية وقواعد البيانات، والأفلام والقطع الموسيقية وتصاميم الرقصات، والمصنفات الفنية مثل اللوحات الزيتية والرسوم والصور الشمسية والمنحوتات، ومصنفات الهندسة المعمارية، والإعلانات والخرائط الجغرافية والرسوم التقنية.
وتشمل الحماية الممنوحة بموجب حق المؤلف أوجه التعبير وليس الأفكار أو الإجراءات أو أساليب العمل أو المفاهيم الرياضية في حد ذاتها. وقد تُتاح، أو لا تُتاح، الحماية بموجب حق المؤلف لعدد من الموضوعات مثل العناوين أو الجمل القصيرة أو الشعارات، وذلك حسب نسبة اشتمالها على عنصر الأبوة.
وهناك نوعان من الحقوق الممنوحة بموجب حق المؤلف: الحقوق الاقتصادية، التي تمكّن صاحبها من جني عائدات مالية من استخدام الغير لمصنفاته، والحقوق المعنوية، التي تحمي مصالح المؤلف غير الاقتصادية.
وتنص معظم قوانين حق المؤلف على أن لصاحب الحقوق الحق الاقتصادي في التصريح ببعض الاستخدامات أو منعها فيما يتعلق بمصنف ما أو في الحصول، في بعض الحالات، على مكافأة لقاء استخدام مصنفه (من خلال الإدارة الجماعية مثلا). ويمكن لصاحب الحقوق الاقتصادية المرتبطة بمصنف ما منع الأعمال التالية أو التصريح بها: استنساخ المصنف بمختلف الأشكال مثل النشر المطبعي أو التسجيل الصوتي، وأداء المصنف أمام الجمهور كما في المسرحيات أو كالمصنفات الموسيقية، وإجراء تسجيلات له على الأقراص المدمجة أو أشرطة الفيديو الرقمية مثلا، وبثه بواسطة الإذاعة أو الكابل أو غيرها، وترجمته إلى لغات أخرى، وتحويره من قصة روائية إلى فيلم مثلا.
ومن الأمثلة على الحقوق المعنوية المعترف بها على نطاق واسع الحق في المطالبة بأبوة المصنف، والحق في الاعتراض على التغييرات التي تُدخل على المصنف، بشكل قد يسيء إلى سمعة المبدع.
كما توجد أنواع أخرى للملكية الفكرية، وهي:
البراءات: البراءة حق استئثاري يُمنح لاختراع ما. وبشكل عام، تمنح البراءة لصاحبها حق البت في إمكانية (أو كيفية) استخدام الآخرين للاختراع.
العلامات التجارية: هي إشارة تميز سلع أو خدمات شركة عن سلع أو خدمات سائر الشركات.
التصاميم الصناعية: هي المظهر الزخرفي أو الجمالي لقطعة ما، ومن الممكن أن يتألف التصميم من عناصر ثلاثية الأبعاد.
المؤشّرات الجغرافية: وأيضا تسميات المنشأ، هي إشارات توضع على السلع ذات منشأ جغرافي محدد وصفات أو شهرة أو خصائص يمكن عزوها أساساً إلى ذلك المنشأ.
الأسرار التجارية: وهي حقوق ملكية فكرية بشأن معلومات سرية يمكن بيعها أو ترخيصها.
تأثير التكنولوجيا على الملكية الفكرية
كما سبق القول، تواجه الملكية الفكرية فرصًا وتحدياتٍ جديدة في العصر الرقمي. ومن الفرص التي يمكن للملكية الفكرية الاستفادة منها، النشر الأوسع، بمعنى سهولة الوصول إلى أسواق جديدة بفضل الإنترنت ووسائل التواصل الرقمي، والحماية الأفضل، بالنظر إلى إمكانية استخدام تقنيات جديدة لحماية الحقوق مثل التوقيع الرقمي والتوثيق الإلكتروني، والتطبيقات الجديدة، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل البحث عن العلامات التجارية وتسجيلها.
أما التحديات فهي عديدة بدورها، نذكر على رأسها النسخ والقرصنة، وقد يتجلى ذلك سهولة نسخ المحتوى الرقمي وتوزيعه دون إذن. كما برزت مسألة صعوبة الملاحقة، بالنظر إلى الطبيعة العالمية للإنترنت التي تجعل من الصعب تتبع الانتهاكات وتطبيق القوانين. أضف إلى ذلك تطور التقنيات وبالتالي الحاجة المستمرة لتحديث التشريعات وتطوير آليات حماية جديدة لمواكبة التطورات التكنولوجية.
وترسم هذه التحديات ملامح توجهات مستقبلية، مثل تطوير التشريعات بحيث تتكيف القوانين مع التقنيات الجديدة وتوفر حماية فعالة للملكية الفكرية في العصر الرقمي (يجب على الأنظمة القانونية أن تتكيف مع التقنيات الناشئة مثل تقنية البلوك تشين والطباعة ثلاثية الأبعاد وغيرها). كما يجب تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص والأكاديميين لتبادل المعرفة وتطوير الابتكار، وتوفير بيئة استثمارية مشجعة للاستثمار في المشاريع المبتكرة.
ويتوجّب مناقشة القضايا الأخلاقية المتعلقة بتطوير واستخدام التكنولوجيا، كما يجب تحديد كيفية حماية حقوق الملكية الفكرية في البيانات المستخدمة لتدريب نماذج التعلم الآلي.
الذّكاء الاصطناعي نموذجاً
بالحديث عن التعلم الآلي، فإن الذكاء الاصطناعي يثير تحديات جديدة فيما يتعلق بحماية حقوق الملكية الفكرية للأعمال التي يتم إنشاؤها بواسطته.
وتشهد أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي انتشارًا واسعًا في مجالات إنشاء المحتوى النصي، المرئي، السمعي والبرمجي. وتقوم هذه الأدوات على نماذج لغوية أو خوارزميات توليدية درّبتها الشركات على كميات ضخمة من البيانات من مصادر متنوعة، تشمل محتوى عامًا وآخر محميًا بموجب حقوق الملكية الفكرية. هذا التطور السريع يثير مجموعة كبيرة من التحديات القانونية والتنظيمية، لا سيما المتعلقة باستخدام البيانات والمخرجات، وتوزيع المسؤوليات بين المستخدمين والمطورين، وحقوق الملكية الفكرية للمحتوى المُنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وفي وثيقة عنوانها «الذّكاء الاصطناعي التوليدي: التعامل مع الملكية الفكرية»، سلّطت المنظمة العالمية للملكية الفكرية «ويبو» الضوء على هذه التكنولوجيا، واعتبرت أن إحدى أبرز الإشكاليات تتمثل في شروط استخدام هذه الأدوات، والتي تختلف بين مقدّم وآخر. إذ تفرض بعض العقود التزامات على المستخدمين، تشمل حدود الاستعمال، والتعويضات القانونية، وحتى ملكية المخرجات. علاوة على ذلك، ما تزال آلية جمع بيانات التدريب التي تعتمدها هذه الأدوات محلّ نقاش قانوني، خصوصا عندما تشمل أعمالا محمية دون الحصول على إذن مسبق. وقد يؤدي استخدام مثل هذه البيانات إلى دعاوى قضائية بتهمة التعدي على حقوق النشر أو الأسرار التجارية أو حتى الخصوصية.
وتضيف «ويبو» أنه، إضافة إلى المخاوف بشأن البيانات، فإن المخرجات نفسها قد تكون مثيرة للجدل، حيث من الممكن أن تولّد الأدوات محتوىً مضللا، أو غير دقيق، أو منتحلا (مثل المحتوى عميق التزييف Deepfake)، أو ينتهك حقوق النشر، أو يحتوي على عناصر قد تُعدّ تشهيرا أو اعتداءً على السمعة أو حتى انتهاكا لحقوق الأشخاص في صوتهم أو صورتهم. وبالتالي، فإن مسؤولية ما يُنتَج من هذه الأدوات ليست محصورة فقط على المطوّرين، بل قد تقع على المستخدمين النهائيين أيضا.
وتمثّل الخصوصية أيضا محورا مهما، فبعض أدوات الذكاء الاصطناعي قد تخزّن البيانات التي يُدخلها المستخدمون وتستخدمها لاحقا لأغراض تدريبية، مما يطرح خطر تسرب معلومات سرية أو محمية قانونيا. هذا الخطر يتضاعف في حال تم اختراق الأنظمة أو استُخدمت تقنيات «حقن الأوامر» لاسترجاع معلومات لم يكن من المفترض الإفصاح عنها.
كما تطرّقت الوثيقة إلى ممارسات أكثر تعقيدا مثل تقليد الصوت والمظهر، والتي قد تُستخدم في إنشاء محتوى مزيف يستغل سمعة شخص أو يظهره في سياقات لم يوافق عليها. وهذا النوع من الاستخدام قد يشكل انتهاكا واضحا للحقوق الفردية، وقد بدأت بعض الدول مثل الصين بسنّ قوانين خاصة لتنظيمه.
واحدة من أكثر القضايا غموضا تتمثل في تحديد من يملك الحقوق القانونية للمحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي. فبعض التشريعات في دول مثل المملكة المتحدة والهند ونيوزيلندا، تعترف بإمكانية حماية المخرجات الناتجة عن الحاسوب حتى في غياب مؤلف بشري. في المقابل، تشترط قوانين أخرى ـ كما في الولايات المتحدة ـ وجود مساهمة إبداعية بشرية كي تكون للمحتوى حماية قانونية. وهذا التضارب القانوني يجعل من الضروري توثيق دور العنصر البشري في عملية الإنتاج، خاصة في سياق حماية حقوق التأليف والنشر.وفي ضوء ما سبق، توصي الوثيقة بعدد من التدابير الاحترازية التي يُستحسن أن تتخذها المؤسسات الراغبة في استخدام هذه التكنولوجيا، ومن بينها: تطوير سياسات استخدام واضحة، وتدريب المستخدمين، ومنع إدخال معلومات حساسة إلى هذه الأدوات، وتقييم مصادر البيانات المستخدمة في التدريب، ومراجعة شروط التعاقد، وفحص المخرجات قبل استخدامها، والتفاوض حول ملكيتها في الاتفاقيات، وأخذ الحيطة عند استخدام صور أو أصوات أشخاص آخرين.