طباعة هذه الصفحة

تسليم مكتبته إلى دار القرآن بجامع الجزائر

تـراث العربــي بختي.. وقـفٌ يُــثري عقـول الباحثـــين

أمينة جابالله

حصيلـة مسـار علمي طويــل لرجل عــاش للفكــر والبحــث والتدريـس

لا يرحل العلماء حقًّا، بل يتركون وراءهم ما يشهد على حضورهم الدائم في ذاكرة الأمة. هذا ما عبّر عنه الحدث الذي شهده جامع الجزائر مؤخرًا، حين آلت مكتبة الراحل الدكتور العربي بختي إلى دار القرآن بجامع الجزائر، لتغدو وقفًا علميًا يُثري عقول الباحثين، ويجعل من العلم الذي كرّس له عمره صدقة جارية ممتدة الأثر.

 تحول تسليم مكتبة الأستاذ الدكتور العربي بختي إلى المدرسة الوطنية العليا للعلوم الإسلامية، لتكون وقفًا على دار القرآن، بموجب اتفاقية وُقعت بين مدير المدرسة الأستاذ عبد القادر بن عزوز، وعائلة الفقيد ممثلة في نجله تقي الدين بختي، وتحت إشراف عميد جامع الجزائر، الدكتور محمد المأمون القاسمي الحسني، تحول إلى لحظة وفاء واعتراف برصيد رجل حمل همّ الفكر الإسلامي والحضاري، وترك وراءه إرثًا يتجاوز شخصه ليصبّ في خدمة المعرفة والوطن.

العربي بختي عالم جمع بين الأصالة والمعاصرة

وُلد الدكتور العربي بختي في بيئة علمية وثقافية جعلت منه منذ شبابه المبكر باحثًا مولعًا بالمعرفة. تخرّج في العلوم الإسلامية وواصل دراساته العليا حتى بلغ درجة الأستاذية، حيث درّس لسنوات طويلة في الجامعات الجزائرية وأسهم في تكوين أجيال من الباحثين.
تميّز بكتابات جادة ومقاربات علمية رصينة، مزج فيها بين وفائه للتراث الإسلامي وانفتاحه على قضايا العصر. من أبرز مؤلفاته: الفكر الإسلامي بين الأصالة والتجديد، مناهج البحث في الدراسات الحضارية، وإشكاليات الهوية في العالم المعاصر.. وقد جعلته هذه الإسهامات أحد الأسماء المعتبرة في الحقل الأكاديمي الجزائري والعربي.
لم يكن الدكتور بختي ( المتوفي في 09 جانفي 2025)، مجرّد أستاذ جامعي، بل كان صاحب مشروع فكري يسعى لإعادة وصل الفكر الإسلامي بجذوره الحضارية، مع استحضار تحديات الواقع. لذلك ظلّ حاضرًا في النقاشات الفكرية الكبرى، تاركًا أثرًا عميقًا لدى زملائه وطلبته الذين يرون فيه قدوة العالم الملتزم برسالته.

المكتبات الوقفية ذاكرة علمية للأمة

وفي كلمته بهذه المناسبة، أكّد رئيس المجلس العلمي لجامع الجزائر، الأستاذ الدكتور موسى إسماعيل، أنّ تسليم مكتبة الدكتور بختي يأتي في سياق سلسلة من المبادرات الكريمة التي باشرتها عائلات جزائرية من مختلف ولايات الوطن، بجعل مكتبات علمائها وقفًا على جامع الجزائر. وقد سبقتها مكتبات نفيسة مثل مكتبة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، ومكتبة المحامي سليمان الصيد، ومكتبة الأستاذ حسان موهوبي، وغيرها من الكنوز المعرفية التي تُسهم في إثراء البحث العلمي وصيانة ذاكرة الأمة.
وأشار المتحدث إلى أنّ هذه الخطوات تجسّد وعيًا متزايدًا لدى المجتمع الجزائري بقيمة الكتاب وبأهمية الحفاظ على الإرث العلمي، مؤكّدًا أنّ جامع الجزائر، بما يضمه من مرافق وعلى رأسها دار القرآن، هو الفضاء الأمثل لصيانة هذه الكنوز وإتاحتها أمام الطلبة والباحثين.

رسالة تتجاوز الحدث

ما حدث لم يكن مجرد توقيع اتفاقية أو إجراء بروتوكولي على هامش ندوة علمية موسومة بـ»رسالة المسجد في المجتمع المعاصر»، بل كان فعلًا رمزيًا بليغًا. إذ عبّر تسليم مكتبة العربي بختي عن وعي بأن حياة العلماء لا تنتهي عند حدود قبورهم، بل تظل ممتدة في مؤلفاتهم وتلامذتهم ومكتباتهم.
لقد وجدت مؤلفات بختي طريقها إلى أجيال جديدة من الباحثين، وستظل كتبه مصدرًا للتأمل والبحث، تمامًا كما ظل هو في حياته منارة فكرية تجمع بين الجدّة والجذور. وبذلك، يصبح العلم الذي خلّفه صدقة جارية، يكتب له البقاء والديمومة في خدمة الناس والوطن.
إن انتقال مكتبة الدكتور العربي بختي إلى رحاب دار القرآن بجامع الجزائر يعبّر عن أكثر من مجرد مبادرة أسرية كريمة؛ إنه حدث يكرّس ثقافة الوقف العلمي ويؤكد أنّ الجزائر ما زالت تنجب العلماء الذين يتركون بصماتهم في ذاكرة الأمة. وهو أيضًا دعوة مفتوحة لبقية العائلات الجزائرية إلى الحفاظ على مكتباتها وصونها من الضياع بجعلها وقفًا للعلم. فالمعرفة حين تُهدى للأجيال، تتحوّل إلى جسرٍ يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وتظل شاهدًا على أن العلماء وإن رحلوا، فإن فكرهم يظل حيًّا نابضًا في العقول والقلوب.

352 عنوان في خدمة العلم

للإشارة، المكتبة التي ضمّت 352 عنوانًا مطبوعًا لا تمثل مجرد رفوف مليئة بالكتب، بل هي حصيلة مسار علمي طويل لرجل عاش للفكر وأفنى سنواته في البحث والتدريس. وهكذا، انتقلت خبرة عمر بأكمله من بيت العالم الراحل إلى فضاء مفتوح أمام الطلبة والباحثين، لتستمر رسالته في خدمة العلم.