وسط السّهول والصّحاري الشاسعة في ولاية الجلفة، يعيش البدو الرحل وفق نمط حياة فريد، بعيدا عن تعقيدات المدن، لكنهم يستقبلون شهر رمضان بشغف ليضفي على أيامه روحانية خاصة. فبالرغم من التغيرات التي طرأت على المجتمع، ما تزال العائلات البدوية تحافظ على تقاليد الأجداد في التحضير للشهر الكريم، من خلال طريقة الصيام والإفطار، والتواصل الاجتماعي، لتشكّل لوحة رمضانية تمتزج فيها البساطة مع الأصالة.
لا ينتظر أهل البادية حلول شهر رمضان للبدء في الاستعداد، بل يباشرون التحضيرات قبل أسابيع، مستفيدين من خبراتهم الطويلة في التكيف مع البيئة الصحراوية. تبدأ النساء في تحضير “الفريك”، وهو قمح يحصد قبل نضوجه ثم يحمّص ويطحن ليصبح جاهزا لحساء الإفطار، الذي يشكل عمود المائدة الرمضانية.
وتتولّى النساء عملية تحضير اللحم المجفف أو “الخليع”، وهو تقنية تقليدية لحفظ اللحوم دون الحاجة إلى وسيلة تبريد، حيث يقطع اللحم إلى شرائح طويلة، يملح جيدا، ثم يجفف في الهواء قبل حفظه في أواني فخارية. ويستخدم هذا المخزون من اللحم طوال الشهر الكريم لتحضير مختلف الأطباق، ما يضمن مصدرا غذائيا متكاملا دون الحاجة إلى شراء متكرر.
كما تتولّى العجائز تحضير “الشكوة”، وهي وعاء جلدي مصنوع من جلد الماعز يستخدم لخض الحليب واستخراج الزبدة. وتعلق الشكوة في عمود خشبي داخل الخيمة، ثم تحرك جيئة وذهابا بحركة مستمرة حتى تنفصل الزبدة عن اللبن، لتستخدم لاحقا في تحضير الطعام أو تستهلك مع التمر خلال الإفطار. وتعلق الشكوة في عمود خشبي وسط الخيمة.
المذياع وصياح الديك
يعتمد بعض البدو على المذياع لمعرفة وقت الإفطار، فيما يلجأ آخرون إلى الاتصال بأقاربهم في المناطق التي تتوفر فيها الخدمات الحديثة. أما وقت السحور، فيعرف من خلال صياح الديك، أو عبر متابعة مواقيت الصلاة في الراديو والهواتف المحمولة.
ورغم انتشار الوسائل الحديثة، ما يزال البعض يفضل الاعتماد على الإشارات الطبيعية التي ألفوها منذ القدم، مثل إشعال النيران فوق التلال عند الغروب لتنبيه القرى والخيام المتباعدة، أو الاعتماد على “الطالب” الذي يرفع الأذان في التجمعات القريبة، ليظلوا أوفياء لأساليب الأجداد، بينما يرى آخرون أن التكنولوجيا باتت وسيلة أكثر دقة وراحة.
..بساطة
لا تخلو مائدة الإفطار في بوادي الجلفة من “حساء الفريك”، الذي يطهى غالبا بقطع صغيرة من لحم الخروف أو الجدي، مع إضافة بعض التوابل التقليدية. يكسر الصيام بالتمر والحليب، ويفضل البعض تناوله مع زبدة الغنم المستخرجة من الشكوة.
أما الأطباق الرئيسية، فتتنوّع وفق المتاح، وأبرزها مرق اللحم والخضروات، الذي يعد طبقا أساسيا في مائدة الإفطار. كما تحضر بعض العائلات الطعام، أو الكسكس الذي غالبا ما يكون الطبق الرئيسي في وجبات السحور، حيث يتناول مع اللبن والتمر لمنح الجسم طاقة كافية للصيام.
وتحتل “كسرة المطلوع” مكانة خاصة في المائدة البدوية، حيث تعجنها النساء بطريقتهم التقليدية التي تمنحها طابعها الفريد. يضاف إليها أحيانا السانوج لمنحها نكهة مميزة، خصوصا وأنها تحضر على نار الحطب الطبيعية، ما يعكس أصالة المطبخ البدوي.
ورغم قسوة الظروف، تحافظ العائلات على تحضير بعض الحلويات التقليدية مثل: المقروط: محشي بالتمر، البغرير ويقدم مع العسل والزبدة. المسمن والمبرجة وهي خبز محشي بالتمر يطهى على الطاجين.
ويفضّل البدو ماء القربة المحفوظ في القرب الجلدية المصنوعة من جلد الماعز والمطلية بالقطران، الذي يعطيه نكهة مميزة، ويجعله أكثر برودة من الماء المخزن في الأواني العادية، خاصة خلال فصل الصيف.
سهرات على ضوء القناديل
تأخذ ليالي رمضان في البادية طابعا مميّزا، حيث تقام صلاة التراويح في المساجد القريبة لمن تتاح لهم الفرصة، بينما يؤدّيها آخرون في الخيام أو تحت السماء المفتوحة، وسط سكون الصحراء وصفاء الأجواء.
وفي ليالي رمضان، يجتمع الرجال حول أكواب الشاي الصحراوي وأطباق الحلويات التقليدية، يتبادلون الأحاديث عن أحوال المراعي، تغيرات الطقس، وشؤون الحياة اليومية. في بعض العائلات، تجتمع النساء لتحضير مأكولات اليوم التالي، بينما يتشارك الأطفال اللعب ويستمعون إلى الحكايات التي يرويها كبار السن، في أجواء يملؤها الدفء والحنين إلى الماضي.
ولا تكتمل السهرات البدوية بدون القهوة المخلطة أو الفرارة، التي تقدم في جلسات السمر الممتدة حتى وقت السحور، حيث يتناول الجميع وجبة خفيفة من الكسكس تم تحضيرها بالسمن الطبيعي، أو وجبة كاملة تتمثل في التمر والحليب.
التّكيّف مع الطّبيعة
مع حلول شهر رمضان في فصل الربيع، ينظّم البدو أوقاتهم بما يتناسب مع متطلبات تربية المواشي، إذ تقسم فترات الرعي إلى مرحلتين؛ صباحية تمتد من طلوع الشمس حتى قبيل الظهيرة، لتسقى الأغنام وتنطلق نحو المراعي. وفي الفترة المسائية، من بعد الظهيرة حتى قبيل المغرب، تعاد المواشي إلى الخيام لحلبها وتجهيزها لليوم التالي. فبهذا النظام، يوازن البدو بين متطلبات الصيام ورعاية مواشيهم، مستفيدين من أوقات النشاط المناسبة لهم ولمواشيهم.
في الطرف الآخر، يعيش سكان المدن بولاية الجلفة رمضان وسط أجواء مختلفة، لكن بعضهم لا يبتعد كثيرا عن العادات البدوية. فالعديد من الأسر الصغيرة تعود إلى “بيت العائلة الكبيرة” خلال الشهر الكريم، حيث يجتمع الأبناء والأحفاد حول مائدة الإفطار، التي لا تخلو من كسرة المطلوع، شربة الفريك، والسحور ب. الكسكس المعمول بالسمن الطبيعي.
وتستمر روح التلاحم الاجتماعي من خلال تبادل الأطباق بين الجيران قبل الإفطار، في عادة تعكس قيم التضامن والتراحم التي تميز الشهر الفضيل في المنطقة.
وبين صحراء الجلفة ومدنها، يظل رمضان شهرا يحمل معه عبق الأصالة ودفء العادات، حيث تجتمع الأجيال على مائدة واحدة، ويظل الماضي حاضرا في تفاصيل الحياة اليومية، رغم تغير الزمن وتطور الأساليب.