طباعة هذه الصفحة

الإصغـاء الصّامـت قـد يكـون مفيدا

لا نطلــب حلـــولا.. نريـد مستمعـا لا يصــدر أحكامــا

 في لحظات التعب أو الحيرة، وأحيانا حتى في الفرح، لا نلجأ لمن نحبهم بحثا عن أجوبة، بل عن أذن تصغي بصدق. نبوح بما في داخلنا لا لنصلح، بل لنفهم. لكن، في زمن تتسارع فيه النصائح وتتسابق الأحكام وفق “الغد”، فهل ما يزال هناك من يجيد الاستماع؟
«لست بحاجة لنصيحة..اسمعني فقط” جملة يردّدها أبناء جيل اليوم، الذين باتوا يدركون أن الحل لا يكون دائما في الرأي، بل أحيانا في مجرد الإصغاء. في زمن أصبحت فيه النصائح الفورية تشعر المتلقي بالحكم عليه أكثر من دعمه، أصبحت الحاجة للإنصات العميق والهادئ ضرورة نفسية، لا رفاهية.
تبرز أهمية “الإصغاء الصامت”، بحسب النفسانيين، باعتباره الفارق الجوهري بين جلسات الكوتشينغ والعلاج النفسي التقليدي. ويوضّحون أن تصغي لشخص ما بإيماءات محايدة، دون إصدار أحكام أو محاولة التصحيح، هو ما يمنح الآخر شعورا عميقا بأنه مرئي وله قيمة. تلك المساحة الآمنة تشعره بالقبول، بدلا من إعادة قولبته كما يفعل الكثيرون.
في مشهد يتكرّر، يروي شاب لصديقه ما يؤرقه، فلا يكاد يكمل جملته حتى تنهال عليه النصائح، وربما المحاضرات، من دون أن يمنح فرصة لتفريغ ما بداخله. كم مرّة حصل هذا؟ وكم مرة أغلق الإنسان فمه بعد ذلك، ليحتفظ بكل ما يشعر به لنفسه؟الإنصات فن بدأ يتكلل في زمن امتلأ بالضجيج: ضجيج السرعة، ضجيج التوتر وضجيج الرغبة في التصحيح. كأن العالم لم يعد يحتمل ضعف أحد، أو حيرته. فـ “الكلام الجاهز” أسهل من الحضور الصامت.
هذا النقص في الإنصات تعود جذوره للطفولة: “هل كانت الأم تسمع طفلها وتحاوره، أو تعتبره مجرد صغير وتهمش رأيه؟”،
تضيف أن التربية، التعليم، بيئة العمل، جميعها عززت ثقافة الأداء بدلا من الفهم والإصغاء.
ويشيرون إلى أنّ قدرة الإنصات لم تورث بشكل كاف من الأجيال السابقة، ربما لأنهم لم يتربوا عليها أصلا. فالأهل غالبا ما يفتقرون لمهارة الإصغاء، إذ اعتادوا على أن يكونوا في موقع المعلم أو القاضي.
أما جيل اليوم، فرغم تمتّعه بوعي عاطفي أعلى، إلاّ أنّه ما يزال يتردد حين يتعلق الأمر بالاستماع الحقيقي. فالثقافة السائدة علمت الناس أن يردوا بدلا من أن يحتوي أحدهم الآخر. وأصبح الحب يربط بالنصيحة، والصداقة بمحاولات التصحيح، والاهتمام بكثرة الكلام، في حين أن أعمق أشكال الدعم لا تقال، بل تمنح بصمت.لذلك، فالإصغاء مهارة علاجية تخرج الشخص من حالة الاعتمادية وتمكنه من الوصول إلى صوته الداخلي، حتى لو لم يكن الحل المثالي علميا.
جيل يحاول فهم نفسه
 في دراسة حديثة حول أنماط التواصل بين الشباب، ظهر أن نسبة كبيرة منهم يشعرون بعدم الارتياح عند مشاركة مشاعرهم مع الأصدقاء أو العائلة، خوفا من “رد الفعل”، سواء أكان تقليلا من معاناتهم أو إصدار الأحكام على اختياراتهم.
رانيا (27 عاما)، تقول: “في كل مرّة كنت أحكي لأهلي عن مشاكلي، كانوا يقاطعونني بنصائح أو مقارنات، لم أجد شخصا يسمعني. وأصبحت أفضل أكتب بمذكرتي أو أفضفض لتطبيق الذكاء الاصطناعي، لأنه على الأقل لا يفرض علي شيء”.
هنا يبرز تحول سلوكي ملحوظ بين الجيل الجديد، إذ باتوا يلجؤون لتطبيقات الذكاء الاصطناعي كمساحة آمنة للفضفضة. ويؤكد خبراء الذكاء الاصطناعي أن هذا التحول له جذور مفهومة، فتطبيقات الذكاء الاصطناعي تقدم مستوى عاليا من الذكاء، تجعلنا نشعر أنها أشبه بإنسان طبيعي من حيث التفاعل، لكنها - في الوقت ذاته - مستحيل أن تلعب دورا أبويا كالإنسان الحقيقي.
الذّكاء الاصطناعي لا يمكنه إعطاء نصيحة دقيقة، لكنه يتحدث بلغتك، ولا يحكم، ولا ينقل كلامك. فيه فجوة لغوية وعاطفية بين الأجيال، والذكاء الاصطناعي أحيانا يسدها مؤقتا. لكن الآلة ليست إنسان، لا تملك عمق الشعور.
يميل جيل ألفا لاستخدام هذه التطبيقات لأنها تقدم تفاعلا يناسب أسلوبهم، فهذه التطبيقات تحاول التحدث معه بطريقة تتناسب مع طريقة تفكيره، أما جيل زد، فيرى أنهم أصبحوا أكثر نضجا مع دخولهم سوق العمل، ويميلون أكثر إلى اللجوء لمعالجين نفسيين حقيقيين. لكن، هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي الإصغاء العاطفي؟ يجيب الخبراء: “ذلك ممكن، لكن فقط تحت إشراف اختصاصيين نفسيين. يمكن تدريب الذكاء الاصطناعي ليقدم دعما عاطفيا موجها لأشخاص عاديين، لا يعانون من مشاكل نفسية متقدمة، بل فقط بحاجة إلى من يسمعهم”.
الفضفضة ليست ضعفا
 في مجتمع يرى البوح عيبا، والدمعة ضعفا، والمشاعر فوضى يجب ضبطها، تصبح الفضفضة شكلا من أشكال المقاومة. حين تبحث عمن يسمعك، فأنت لا تطلب حلا، بل تطلب قلبا يصغي إليك كما أنت، من دون محاولة تعديلك.
الحل، يبدأ من التربية العاطفية، وتعليم الأهل والمربين والمهنيين مهارة الإنصات قبل الحوار، وتقدير الألم قبل تقديم النصائح.
ربما نحتاج إلى أن نتوقف عن تصديق أن كل ألم بحاجة لحل، وأن كل شكوى بحاجة لتصحيح. أحيانا، يكفي أن نقول: “أنا أفههم شعورك”. تلك الجملة، وحدها، قد تمنح قلبا ما يكفي من القوة ليكمل يومه.
ليس المطلوب أن يكون المرء معالجا نفسيا، ولا خبيرا. يكفي أن يكون حاضرا بصدق. أن يدرك أن الإصغاء ليس ضعفا، وأن الصمت في حضرة البوح احترام، لا عجز. كل ما نحتاجه هو من يصغي، لا من يفرض حلا. فالبحث ليس عن منقذ، بل عن مستمع لا يصدر أحكاما.