طباعة هذه الصفحة

«الشعب» تستطلع رحاب رمضان في القصبة

رمزية المكان في ذاكرة الإنسان عبر الزّمان «العوايد» و»الحطّات« اختفت من الدويرات مع ترحيل العائلات

جمال أوكيلي

بحلول شهر رمضان ارتأينا أن نستطلع العاصمة، ووقع اختيارنا على عيّنة حيّة يضرب بها المثل عند اقتراب هذا الضّيف على الجزائريّين، وهكذا كانت وجهتنا القصبة. هذا الصّرح التّاريخي والحضاري الحامل لشريط ذاكرة زاخرة بقيم التّضامن والعادات والتّقاليد الصّانعة لمجد هذا المكان الشّاهد على حلقات إنسان واجه كل مسار فعل الزمن بكل ما له وعليه.
هذه القفزات في محطّات هذا الفضاء كان لها الأثر البالغ في تثبيت سلوكات وأخلاقيات من جيل إلى جيل، توارثها كل من سكن ما يعرف بالدويرات وحفظ عن ظهر قلب ضوابط العيش في كنف إطار صارم لا يعلن اسمه، فارضا نفسه، الكل يخضع له ويحترمه من الكبير إلى الصّغير، لم يتمرّد عنه أحد ما دام موجودا في الضّمير الجماعي قائما بذاته.
كانت السّاعة الـ ١١ صباحا، عندما قرّرنا معاينة الأحياء المشهود لها بالاستعداد الحثيث لاستقبال شهر رمضان والمحيطة بهذا الحي العتيق كسوسطارة، باب جديد، رامب فالي، لوني أرزقي، بوزرينة، ساحة الشهداء ومدخل باب الوادي إلاّ أنّنا لم نقف على أي مشروع ملموس يؤكّد هذا المسعى، الكل منهمك في أموره الخاصة، ينتظر فقط ما اعتاد عليه، أما الباقي فإنّ الأشياء عادية جدا.
هذا المشهد العام اعتقدنا أنّه مجرد واجهة تخفي واقعا آخر غير مطلعين عليه، وهكذا توغّلنا إلى العتبات الأولى للحي من ناحية مسجد علي بتشين وأول يافطة قابلتنا كتب عليها شارع الأستاذ صوالح عبارة عن مدرجات، وفي الزّاوية المقابلة هناك نهج الدكتور بلعربي، وفي آخر ذلك الممر وجدنا أحد قدماء السّكان ألا وهو السيد بولعشب حسين، الذي قضينا معه وقتا مطوّلا في الحديث عن الأجواء في رمضان.
ما بقي منها إلا الاسم
وأمام دهشتنا لغياب حد أدنى من المؤشّرات لهذا الشّهر، سألنا هذا الرّجل عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظّاهرة غير المنتظرة والمفاجئة في آن واحد، حتى وإن اعتاد عليها البعض خلال السّنوات الماضية، وممّا اطّلعنا عليه في هذا المجال هو تركيزه على رحيل العدد الهائل من السكان الأصليّين للقصبة إلى مناطق أخرى، ممّا أدّى إلى اختفاء تلك العادات وحتى اندثارها بدليل أنّه لا توجد اليوم.
بالأمس، ومنذ البوادر الأولى لرمضان، تشرع العائلات في الاستعداد المادي، وهذا من خلال الإسراع في تجيير الغرف وشراء الأواني، وإعداد كل ما يلزم لإعداد الأطباق الشّهية المعروفة والذّائعة الصيت كالمثوّم، الشربة، طاجين الزيتون والعجائن المحضّرة يدويا.
هذه الصّورة للأسف غير موجودة اليوم نظرا لعدّة اعتبارات، منها التّغيير الجذري الذي طرأ على التّركيبة البشرية للسكان، ومغادرة الكثير منهم المكان الذي ترعرعوا فيه منذ نعومة أظفارهم رفقة عائلاتهم وجيرانهم.
وهكذا فإنّ ما يعرف بالمكان الرمز الذي له امتدادات في الأعماق يروي للأجيال سيرة أشخاص عاشوا وعايشوا أوقات هادئة في تفاعلهم مع الأحداث ذات القيمة الدينية، انطلاقا من رؤيتهم البسيطة والعادية لمستوى معيشتهم، ويتذكّرون جيّدا ما كان يشهده سيدي رمضان، سيدي بوقدور، سيدي هلال، حوانيت سيدي عبد الله وغيرها من  النّشاطات المتنوّعة يعجز اللّسان على وصفها من سهرات وليالي السمر سواء في المقاهي الشّعبية أو في السّاحات العمومية حتى مطلع الفجر.  وفي هذا الصّدد، فإنّ النّشاط الرّمضاني يبدأ مباشرة بعد السّاعة الرّابعة مساءً وإلى غاية آذان المغرب، وهذا بالوقوف على الطّاولات الممتدّة على الأحياء المقابلة للقصبة والتي تعرض كل أشكال البوراك وزلابية بوفاريك وقلب اللوز، وكذلك ما يعرف بالشربات، ويسجّل إقبال واسع على هذه المرطبات التّقليدية خاصة أولئك الفضوليّين الذين يجدون لذّة لا مثيل لها، وهم مرتاحون في هذا الجو العام والحيوي.
ويتذكّر جيّدا عمّي «حسين» وهو صغير ما كانت تجمع مقهى «مالاكوف» من فنّانين في النّوع الشّعبي الأصيل كالحاج امحمد العنقاء، مريزق ونخبة كبيرة من محبّي هذا الفن رفقة المولعين الذين اعتادوا التردد على ذلك المكان المغلق اليوم للأسف أبوابه موصدة نهارا أو ليلا، وقد كتب على اليافطة من المدخل الخلفي «رواق مقهى مالاكوف»، وهذا يعني أن مساحته تمتد على جهتين ساحة الشّهداء والقصبة.
هذه عيّنة فقط للنّوادي وغيرها التي كانت تجمع النّاس في يوم من الأيام، هذا غير موجود اليوم، ماعدا المقاهي الشّعبية في الأحياء التي تفتح ليلا، في حين الفضاءات المميّزة لا أثر لها اختفت كلية، وهاهي اليوم إلا آثار إن لم تسارع للحفاط عليها وحمايتها، فإنّنا سنجدها في يوم من الأيام محل لإيداع الأقمشة أو الملابس وغيرها كما هو الحال اليوم للأسف.
الجمعيات مسؤولة عن هذا الوضع
بالنّسبة للحرفي خالد محيوت في النّجارة الفنية الكائن محلّه في أعالي القصبة باتجاه باب جديد، فإنّه يتذكّر جيدا تلك التّحضيرات الحثيثة التي كانت تقوم بها العائلات قبل حلول رمضان بحوالي شهر من جميع الجوانب، منها بالأخص تنظيف الغرف وإعادة طلائها بمادة الجير، مع غسل الفراش والأواني الفخارية أو النحاسية ومراعاة مياه البئر الصالحة للشرب، والأخرى الآتية من الجب للاستعمال لأغراض أخرى.
يضاف إلى كل هذا الأشغال المنزلية ذات الصلة الوثيقة بإعداد الأطباق، وهكذا تسابق العائلات الزمن في توفير كل ما يلزم من مواد غذائية اعتادت عليها، منها تجفيف الطماطم واللحم أو ما يعرف بالقديد للشربة وغيرها والمخللات، وبالتوازي مع ذلك هناك تحميص القهوة بكل أنواعها (الصفراء، الخضراء..)، أي أن العائلات في القصبة كانت تعد «زادها» لوحدها طيلة هذا الشهر، من أصغر حاجة إلى أكبرها قد تبدو غريبة أحيانا لكن العادة كانت تسير على هذا النمط (كالمربى، القطايف، الفداوش..). وهذا الاكتفاء الذاتي يدعّم ميزانية العائلة بشكل كبير ويقلل عنها مصاريف هامة، خاصة وأن البساطة كانت سيدة الموقف ليس هناك أي تبذير يذكر، كل شيء محسوب بإتقان ودقة ممّا يسمح بمرور هذا الشّهر بإحكام في نفقاته.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد بل كل النشاط مخطّط له تخطيطا واضحا، وهذا بالاعداد الجيد للمناسبات كليلة الـ ٢٧ من ليلة القدر، هناك الكثير من العائلات من تقوم بعملية ختان أبنائها، وهنا تكون المبادرة لشتى أنواع الحلويات «الصامصة، مقروط لعسل، الغريبية، بقلاوة، التشاراك العريان والمسكر، متقبة بالتمر وحلوة الطابع».
 الذروة في النشاط خلال هذا الشهر يكون بداية من الساعة الرابعة مساءً لأنّ في الصبيحة يذهب الناس الى العمل وقضاء أشغالهم، وأثناء هذه الفترة يفسح المجال لاقتناء الخضر والفواكه من الأسواق، وكل ما يتعلق بالأطباق الراقية ذات الروائح الزكية، إلى جانب العجائن المعروفة من ديول وقطايف، ومباشرة عقب صلاة العصر تسود حيوية لا مثيل لها وانتعاش منقطع النظير في الحركة في شراء البوراك أو البريك وماء الزهر القادم من البليدة، بوفاريك والقليعة وخبز الدار، وهناك من لا يظهر له أثر منذ المساء وإلى غاية «ضربات المدفع» بالذهاب إلى ضواحي العاصمة لشراء كل ما لذّ وطاب من حليب البقر، لبن وزلابية. وتتواصل الحركة للناس بعد المغرب بالتوجه الى المسجد لصلاة التراويح وتغذية الروح بزاد التقوى،
وهناك من يذهب لزيارة الأهالي وقضاء سهرة رفقتهم، كذلك بالنسبة للأصدقاء الذين يلتقون في المقاهي منها «مالاكوف»، «التلمساني» و»قوراري»، هذه الأماكن كانت محطة مع أعمدة الأغنية الشعبية بوجمعة العنقيس، قروابي، حسن السعيد، اعمر العشاب، وتستمر هذه «القعدة» الى غاية الفجر.
ويرى السيد محيوت أنّ سبب اختفاء هذه الأجواء هو مغادرة العائلات القصبة وإقامتهم في أحياء سكنية جيدة لا يتعارفون فيما بينهم للأسف نظرا لاختلاف عادات وتقاليد الآخرين، كل ما كانوا يحسنون فعله زال تلقائيا واندثر للأسف دون أن يشعروا بذلك، وقد شبهّ محيوت هذه الوضعية بتفكك كتلة متماسكة وانفراط عقد من «العقاش»، فشتّان بين الدويرة الجامعة للعائلات والعمارة الغالقة للأبواب الفارضة لقيم الأنانية والتقوقع شعارها «نفسي - نفسي».
ويعد السيد محيوت من ناس القصبة الذين لهم اطّلاع واسع على ما يجري في هذا المعلم التاريخي من كل النّواحي، واختصر لنا القول بأنّ ما يتعرّض له اليوم هذا الصّرح تتحمّل مسؤوليته الجمعيات التي تتحدّث باسم القصبة، وهي في الواقع غير موجودة شغلها الشّاغل أخذ الأموال والاعانات والمساعدات والهبات ثم تختفي ولا تعود إلاّ عندما تأتي الأحداث المتعلّقة بالقصبة.
ويعتبر بأنّ هذه الجمعيات كلّها تدّعي الحماية والحفظ، لكن الواقع غير ذلك مؤكّدا: «أنظروا إلى ما وصلت إليه من درجة التدهور وانعدام النّظافة، وانتشار الآفات الاجتماعية من تعاطي للمحظورات مع وجود أماكن مشبوهة، كما أنّ هناك من استولى بالقوة على الدويرات، ويسكنها حاليا عاديا ولا أحد يقلقه..هذا هو حالة القصبة اليوم».