تشهد الجزائر خلال السنوات الأخيرة نقلة نوعية في تسيير مصالح الحالة المدنية، وذلك في إطار برنامج وطني واسع يهدف إلى تحديث الإدارة العمومية، وتسهيل علاقة المواطن بالمؤسسات، ومن بين أبرز القطاعات التي طالتها هذه الإصلاحات، نجد مصالح الحالة المدنية التي عانت لعقود من البيروقراطية والتعقيد.
بدأت هذه الديناميكية الجديدة بإطلاق منصة رقمية خاصة بالحالة المدنية، تمكن المواطنين من استخراج وثائقهم الرسمية مثل شهادات الميلاد، الزواج، الوفاة وغيرها، عن بعد دون التنقل إلى مقر البلدية، وقد لاقت هذه الخطوة ترحيباً واسعاً، خاصة من الجالية الجزائرية المقيمة بالخارج، لما وفرته من وقت وجهد.
سجل وطني للحالة المدنية
في السياق نفسه، تم إنشاء السجل الوطني للحالة المدنية، وهو قاعدة بيانات مركزية تضم جميع المعلومات المتعلقة بالحالة المدنية لكل المواطنين عبر كامل التراب الوطني، يهدف هذا السجل إلى توحيد المعطيات بين البلديات، وتحسين دقة المعلومات الإدارية، والحد من عمليات التزوير والتكرار.
ولتعزيز الجانب الأمني وربط الخدمات الإدارية ببعضها، أطلقت الحكومة الجزائرية الرقم التعريفي الوطني الموحد (NIN)، والذي يُمنح لكل مواطن جزائري منذ الولادة، ويستخدم لتتبع وتحديث ملفه الشخصي في مختلف الإدارات. هذا الرقم سيسهم مستقبلاً في تسريع المعاملات، وربط الملفات الإدارية بفعالية، دون الحاجة لإعادة تقديم نفس الوثائق في كل مرة.
رقمنة شاملة للأرشيف
من جهة أخرى، ساهمت رقمنة الأرشيف الورقي في تحويل ملايين الوثائق القديمة إلى نسخ رقمية مؤمنة، ما يضمن حفظها من الضياع أو التلف، ويسهل الوصول إليها بسرعة عند الحاجة، وقد تم تزويد البلديات بالتجهيزات اللازمة مثل الحواسيب، والماسحات الضوئية، والبرمجيات الحديثة، إلى جانب تحسين خطوط الإنترنت وضمان الاتصال الآمن بالسيرفرات المركزية.
ولم تتوقف الجهود عند هذا الحد، بل شملت أيضا الربط البيني بين مختلف الوزارات والإدارات، حيث أصبحت بيانات الحالة المدنية متاحة لوزارات مثل الصحة، العدل، التعليم والداخلية، مما يُجنّب المواطن عناء جلب الوثائق الورقية عند تقديم ملفات إدارية، حيث تستخرجها المصالح المعنية آليًا من قاعدة البيانات الوطنية.
وبفضل هذا الربط، تم إلغاء طلب عدة وثائق كانت تعتبر إلزامية في السابق، مثل شهادة الميلاد والجنسية، وذلك في ملفات التعليم، التوظيف، أو الحصول على جواز السفر، مما يعكس رغبة الدولة في التخفيف من الأعباء التي كان المواطن يتحملها.
اعتماد الإمضاء الالكتروني
أما على مستوى التوثيق الرقمي، فقد بدأت الجزائر في اعتماد الإمضاء الإلكتروني في بعض المعاملات الرسمية، خصوصًا بين الإدارات، مع العمل على تعميمه مستقبلًا ليشمل المواطنين، مما يضمن موثوقية الوثائق الرقمية ويحميها من التلاعب.
وموازاة مع هذا التطور التقني، لم تغفل الدولة أهمية تكوين وتأهيل الموظفين، حيث نظمت برامج تدريبية مكثفة لتعليمهم كيفية التعامل مع الأنظمة الرقمية الجديدة، والتفاعل مع المواطنين بكفاءة واحترافية.
نظام الشباك الموحّد
ولتحسين جودة الخدمة، شرعت بعض البلديات النموذجية في تطبيق نظام الشباك الموحد، الذي يُمكن المواطن من إنجاز كل وثائقه من مكان واحد داخل مقر البلدية، دون الحاجة للتنقل بين المكاتب المختلفة، وهو ما قلّص من الطوابير والانتظار الطويل.
كما تعمل الجهات الوصية على تطوير تطبيقات إلكترونية للهاتف الذكي، تسهّل على المواطنين طلب الوثائق، تتبع وضعية الملفات، أو حتى التصريح عن بعد بحالات الولادة والوفاة، وهي خدمات ستُحدث تحولاً جذريًا في علاقة المواطن بالإدارة.
وفي أفق أبعد، تخطط الحكومة لتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في معالجة وتحليل بيانات الحالة المدنية، بما يسمح بوضع سياسات عمومية أكثر دقة، واستشراف احتياجات السكان وفق معطيات حقيقية ومحدثة.