طباعة هذه الصفحة

قطب اقتصادي سياحي ثقافي تنموي بامتياز

العاصمة..أيقونـة الجزائر المنتصـرة تزداد بهـاء

سارة بوسنة

منذ أن استعادت الجزائر سيادتها الوطنية عام 1962، تحوّلت المدينة التي كانت رمزاً للإقصاء الاستعماري، إلى ورشة مفتوحة لإعادة التأسيس الوطني. وعلى امتداد أكثر من ستة عقود، شهدت العاصمة تغييرات كبرى شملت قطاعات عدة، من السكن والتعليم إلى الصحة والنقل، مروراً بالتوسع العمراني والبيئة، لتكون قصتها مرآة حية تعكس مسيرة تطور الدولة الجزائرية.

ورثت الجزائر عن الحقبة الاستعمارية مدينة غير متكافئة عمرانيًا، حيث كان أغلب السكان الأصليين يعيشون في أحياء مهمشة وفقيرة، فيما تمركزت المنشآت والخدمات في المناطق التي شُيّدت خصيصًا للأوروبيين، ولهذا كان أول تحد واجهته الدولة الجزائرية المستقلة هو معالجة أزمة السكن، حيث لم يكن هناك ما يكفي من المساكن اللائقة لاستيعاب الكثافة السكانية المتزايدة، لا سيما بعد موجة الهجرة الداخلية التي أعقبت الاستقلال.
وخلال السبعينيات والثمانينيات، أطلقت الدولة حملات بناء واسعة النطاق في أحياء مثل باب الزوار، باش جراح، الحراش، وعين البنيان، وفي الألفية الثالثة، ظهرت مشاريع ضخمة مثل “عدل” و«السكن الترقوي المدعم”، وساهمت في تغيير وجه المدينة، حيث سُجّل إنجاز أكثر من 560 ألف وحدة سكنية في إطار برنامج “عدل” وحده على مستوى البلاد، كان للعاصمة نصيب وافر منها، كما تم ترحيل عشرات الآلاف من العائلات من الأحياء القصديرية، ما ساهم في تقليص مظاهر التهميش العمراني.

النقل.. من فوضى الطرقات إلى شبكات ذكية

في موازاة ذلك، لم يكن قطاع النقل أقل حرجًا. عانت العاصمة في أوقات سابقة من فوضى مرورية ووسائل نقل غير كافية تربط الأحياء المتفرقة، لسنوات طويلة، ظل النقل يعتمد على الحافلات وسيارات الأجرة التقليدية، إلى أن بدأت الدولة في السنين الأخيرة في تطوير منظومة نقل حضري حديثة أسست من خلاله مستقبل دولة مستقلة عصرية. وشكل افتتاح مترو الجزائر نقلة نوعية في هذا المجال، حيث أصبح يربط عدة مناطق رئيسية من العاصمة مثل البريد المركزي، الحراش، عين النعجة، وساحة الشهداء.
كما ساهم الترامواي، الذي انطلق في نفس العام، في تخفيف الضغط عن الطرقات، خاصة في الاتجاه الشرقي من المدينة، هذه المشاريع، إلى جانب تطوير شبكة القطارات الضاحية وتوسيع الطرق الدائرية، ساعدت على تحسين الحركة داخل العاصمة، رغم استمرار بعض الإشكالات المرتبطة بالاختناق المروري، لاسيما في ساعات الذروة.

الصحة.. توسيع التغطية وظهور التخصصات

أما على مستوى الصحة، فقد ورثت الجزائر منظومة استشفائية نخبوية، لم تكن مهيّأة لخدمة الجزائريين، بل صُمّمت لتخدم الأقلية الاستعمارية، بعد الاستقلال، وكان على الدولة الجزائرية بناء قطاع صحي يضمن الحد الأدنى من التغطية السكانية. وبدأت عملية التوسّع بإنشاء مستشفيات عامة ومراكز صحية في مختلف بلديات العاصمة، وصولا الى بناء مستشفيات جامعية وتخصصية، وتم إنشاء مراكز نوعية كمركز بيار وماري كوري لمكافحة السرطان، ومستشفى زرالدة للتأهيل العصبي.
وعلى الرغم من توسّع شبكة الخدمات، فإن ضغط السكان ونقص التجهيزات الحديثة والتفاوت في الخدمات بين البلديات ما زال يُثقل كاهل هذا القطاع.

التعليم.. من الأمية إلى الأقطاب الجامعية

وفي مجال التعليم، كانت الانطلاقة بعد الاستقلال ثورية بحق.  فبينما لم يكن أكثر من 10% من الجزائريين متعلمين خلال الاستعمار، جعلت الدولة الجديدة من التعليم حجر الأساس في إعادة بناء الإنسان والمجتمع. في العاصمة، تم فتح الآلاف من المدارس الابتدائية والإكماليات والثانويات لتغطية الأحياء الجديدة.
التعليم الجامعي بدوره عرف توسعا كبيرًا، إذ نمت جامعة الجزائر الأم لتشمل فروعًا في بن عكنون، باب الزوار، القبة، وسيدي عبد الله، إلى جانب إنشاء مؤسسات جديدة مثل جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين، والمعهد الوطني العالي للموسيقى، والمدارس العليا للتعليم، ويُقدّر عدد الطلبة المسجلين في جامعات العاصمة بأكثر من 300 ألف طالب سنويا، ما يجعل منها قطبا علميا رئيسيا على مستوى الوطن.

التهيئة والبيئة.. انشاء مدن جديدة وخطط لحفظ العمران

العمران والتهيئة الحضرية كانا أيضا في صلب السياسات العمومية، وشهدت العاصمة توسعا هائلا حيث انتقل عدد سكانها من حوالي مليون نسمة في ستينيات القرن الماضي إلى أكثر من 4.5 ملايين نسمة اليوم. هذا التوسع السريع أدى إلى ضغوط كبيرة على البنية التحتية، وظهور أحياء عشوائية غير مهيكلة.
 أمام هذا الواقع، شرعت السلطات منذ بداية الألفية في إطلاق مخططات توجيهية عمرانية، وشرعت في إنشاء مدن جديدة على غرار سيدي عبد الله وبوينان لتخفيف الضغط عن العاصمة القديمة، كما عرفت المدينة تحسينات بيئية وجمالية، مثل إعادة تهيئة الكورنيش البحري، وإنشاء مساحات خضراء جديدة، وترميم حديقة التجارب وحي القصبة المصنف تراثًا عالميًا.

استعادة الذاكرة الثقافية

بدورها عرفت محاولات متعددة للاستعادة والتثمين. فمنذ الثمانينات، ركّزت الدولة على ترميم المعالم التاريخية مثل جامع كتشاوة والبريد المركزي، وإنشاء متاحف وطنية وقاعات عرض فنية، ومع تصنيف القصبة ضمن قائمة التراث العالمي، بدأت تظهر مبادرات للحفاظ على الذاكرة المعمارية والتاريخية للعاصمة.
 اليوم، وبعد أكثر من ستين عاما من الاستقلال، لا تزال الجزائر العاصمة في قلب التحوّلات، فرغم التقدّم الكبير في القطاعات الحيوية، تبقى التحدّيات حاضرة، خاصة في مجالات البيئة، التسيير الحضري، والنقل الذكي، ويبقى تجسيد المشاريع الجديدة، مثل رقمنة الخدمات، وتوسيع البنى التحتية الحديثة، توحي برغبة الدولة في جعل العاصمة واجهة حقيقية للجزائر الحديثة، تمزج بين العمق التاريخي والطموح المستقبلي، بين الأصالة والتجديد، وبين الذاكرة والتحديث.