طباعة هذه الصفحة

رحيل ذاكرة وبقاء أثر

فضيلة بودريش

 

 

 

لم يكن مجرد إعلامي عادي، مرّ من مهنة المتاعب دون أن يترك ذلك الأثر البالغ في المتلقي وفي مختلف الأجيال الإعلامية، التي جاءت من بعده وتدربت على يده أو احتكت به، لا غرابة أن يكون بهذه الخصوصية لأنه كان قلما جريئا وصوتا تلفزيونيا مميزا قطع أشواطا مهمة، ورغم ذلك بقي طيلة مساره الإعلامي سخيا ينهل منه القريب والبعيد، بل ظل من الصحافيين القلائل  الذين ينتمون إلى الرعيل الأول، صامدا في وجه التغيرات على كثرتها وتنوعها، باحترافيته العالية ورؤيته الثاقبة التي لا تخطئ التصور أو التقدير.
اتسم الراحل إلى الدار الباقية بـ»كاريزما» مثيرة يمزج فيها الهدوء بالثقة والتواضع، وابتسامته العالقة التي تشرق في وجه كل من عمل معه. كان الراحل عز الدين بوكردوس قامة إعلامية تنبض بروح إنسانية، وفوق كل ذلك حمل شغفا كبيرا لمهنة ظل يحترق من أجلها طيلة عقود طويلة من الزمن دون أن يمل أو يتعب، فكان بمثابة ذاكرة إعلامية حيّة واكبت فترة حكم جميع رؤساء الجزائر وعايش فيها تاريخ الجزائر المستقلة. بل لا يمكن المبالغة بالقول انه كان مدرسة حقيقية تدرب على يدها عدد كبير من الصحافيين.
نفقد في هذه  الظروف الصعبة قيمة وقامة إعلامية لها ثقل وشهرة وعطاء وذاكرة مفعمة بالأحداث ومثقلة بالخبرات، نفقد عز الدين بوكردوس الأستاذ والزميل والأب والإنسان، الذي علّم بكرم كيف يرتقي المهني في مساره بالصبر والجد، لا يمكن أن ننسى الراحل الذي لا يتردد عندما يتعلق الأمر بالمهنة النبيلة، فيغمر الشباب الطموحين بالتشجيع، ويؤمن بالكفاءة والأقلام الموهوبة، فيفتح لهم الأبواب والمساحات البيضاء ويحفزهم على الاجتهاد والمثابرة.
من نقطة البداية بشارع الشهداء إلى نقطة العودة إلى نفس الشارع، أي من الإذاعة والتلفزيون إلى جريدة «الشعب»،  التي حاول بكل ما أوتي من طاقة وإمكانيات أن يحولها إلى قلعة إعلامية، أتذكر عندما كنت أدخل قاعة التحرير لاطلع مدير التحرير على آخر الأخبار الحصرية «سكوب»، التي استقيتها لتحرير مقال صحفي، أتفاجأ أنه يتابع كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالعمل الإعلامي، الذي كان يستهويه أكثر من العمل الإداري، وأجده يتنهد ومستاء ويحمل غصة في صدره بسبب ولعه بالمهنة ووفائه لها. أحاول ببعض الاستفهامات معرفة السبب، فأتفاجأ بأنه تمنى لو يجد فريق إعلامي لامع متكامل وقوي يحول فيها «أم الجرائد» «الشعب» إلى قلعة إعلامية، تناهز كبريات الجرائد في الوطن العربي والعالم. ومع ذلك لم يدخر جهدا حيث اقتنى بأموال الجريدة مقرا مستقلا في موقع استراتيجي بشارع الشهداء، ويعد أول مدراء جريدة عمومية وخاصة، ينشئ على مستوى جريدته مركزا للدراسات الإستراتجية، استضاف في عهده شخصيات عربية وغربية لها ثقلها في العالم نذكر من بينها «بطرس غالي».
لا يمكن أن يغيب بصوته وصورته وأثره عن ذاكرتي، ولا أنسى أنه كان يمنح الإعلامي هامشا واسعا وهاما من حرية الكتابة والنقد دون قذف أو تجريح، فيمكن التطرق لمختلف المواضيع والأخبار، لذا لاغرابة أنه طيلة تواجده على رأس الجريدة نقف بشكل لافت على الحضور القوي للأعمدة والتحاليل، الراحل كان بمهنيته وولعه بشغف المهنة، يتطرق في مختلف اجتماعات التحرير اليومية لجميع الأحداث الراهنة يحللها بنظرته الحادة ويطلب رأي الإعلاميين فيها، يوافق ذاك ويختلف مع الآخر في نقاش مهني احترافي جاد. وأذكر أنه كان يفكر قبل إحالته على التقاعد في عام 2012، بشكل عميق في سلسلة أحداث الربيع العربي، ويتناقش مع الجميع حول تطورات ومستقبل تلك الأحداث حتى مع الإعلاميين الشباب.
عشرة أعوام كاملة تمرست فيها في الجريدة، أشهد له أنه لم يكن ينقطع عن تشجيع الأقلام المعطاءة الطموحة، كان دائما يردد عبارة «المستقبل أمامكم أيها الشباب لا تبخلوا على المهنة وعن خدمة وطنكم.. أنصحكم أن تنفتحوا كثيرا على  وسائط التواصل الاجتماعي»، صحيح أنه غادر الجريدة منذ أعوام، لكن دوما ذكراه الطيبة تسبق حضوره، نتذكر مواقفه، نتذكر طريقة تعامله بحنكة ولطف وذكاء الخبير مع مختلف الأزمات، نتذكر كرمه الإنساني والمهني واحترافيته وخبرته التي نفقدها اليوم برحيله المفاجئ والمؤلم.