يبحث الناس بين أكوام الركام، وتحت تلال التراب وكثبان الرمال، عن أبنائهم الذين قضوا في المقتلة، ولم يعرفوا بعد أماكن دفنهم، ليُطفئوا بمواراتهم النار التي ما زالت تضطرم في أفئدتهم، وتجعل النوم يُجافي عيونهم. في كلّ يوم، ومع توفّر بعض الجرافات، يتم الإعلان عن انتشال أعداد جديدةٍ من الشهداء، الذين يعاد دفنهم بما يليق بهم، بينما يتصور ذووهم آلام فقدهم، ويتجرعون مرارة غيابهم عن موائد الإفطار في رمضان.
على كتفها نعش ابنها، وهي تغذ الخطى لمواراته الثرى، تختلط مشاعرها بين السعادة بالعثور على فلذة كبدها بعد ثلاثة أشهر من استشهاده، وبين الحسرة لعدمتحقق أمنيتها في دفنه بجوار شقيقه، الذي سبقه إلى الثرى قبل أيام. لقد أصبح دفن الأشقاء بجوار بعضهم أقصى أماني الأمهات المكلومات بفقد الأعزاء من الأزواج والأبناء والبنات..فقط..يحدث هذا في غزة!
شيطنة رمضان!
هي سياسة صهيونية ممنهجة تقوم على الإرعاب والإرهاب والشيطنة، للتغطية على ارتكابات ومخططات أخرجت من الأدراج، لوضعها موضع التنفيذ خلال المناسبة الدينية، التي يمارس فيها المسلمون عبادتهم بما يليق بجلالها، وبما تكتنزه من قِيم الصبر والتسامح والمحبة. افتعال الأحداث، والتضييق على الناس، وتهجيرهم من بيوتهم في المخيمات، وإطلاق أيدي المستوطنين لمصادرة الأراضي وتدمير الممتلكات، كل تلك الممارسات إنما ترمي لاستجلاب ردود فعلٍ من الضحايا الذين لا يملكون غير صبرهم، والبكاء على منازلهم التي يطردون منها إلى المجهول، ويمنعون من العودة إليها، بينما يقتل أبناؤهم في متوالية الاستفزازات التي ترمي إلى جعل المكان غير قابل للحياة.
القتل بلا سبب، كما حدث للطفل أيمن الهيموني الذي قتل أمام والده في الخليل، وسحل شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة في الفوار، وآخر بعد إطلاق النار عليه في دورا، كلها أفعال ترمي لاستفزاز الضحايا الذين تصادف وجودهم في المكان، لتبرير عمليات القتل والسحل والاعتقال.
رمضان بالنسبة للمؤمنين هو شهر الخير والبركات والعبادات، تغسل فيه القلوب من أدران المعاصي والذنوب، وتطوى فيه صفحات الماضي، وتنفتح أخرى بقلوب صافية، ونفوس مطمئنة راضية مرضية. بالصوم، نقاوم أهواء النفس الأمّارة بالمعاصي، وبالصدقات نُطفئ السيئات، ونطعم الطعام “على حبه مسكينا ويتما وأسيرا”، وبسلاح الحياة نُقاوم الاحتلال، ونعزز وجودنا على أرضنا، ونرابط في مقدساتنا التي نسيجها برموش عيوننا.