نموذج مختلف في العلاقات الثّنائية العربية.. ومثال للأخوّة والصّداقة والثّقة
توافق على صون الخط السّيادي المستقل في القرارات الخارجية دون خضوع لأجندات إقليمية أو اِملاءات دولية
ترسيخ التّنسيق العربي..والدّفاع عن فلسطين مبـدأ ثابـت
استهجان واستنكار حــرب الإبادة وسياسة الأرض المحروقــة للاحتلال الصّهيوني
في زمن تتعدّد فيه التحالفات وتتشظى فيه المواقف العربية، جاءت زيارة الدولة التي قام بها السلطان هيثم بن طارق إلى الجزائر يومي 4 و5 ماي 2025، لتعكس نموذجا مختلفا في العلاقات الثنائية العربية، قوامه التفاهم الهادئ والتقارب الاستراتيجي المبني على المصالح المشتركة والعقلانية السياسية.
بعيدا عن الصخب الدبلوماسي والرهانات الظرفية، تبني الجزائر وسلطنة عمان علاقتهما على أساس راسخ من الاحترام المتبادل، والسيادة الوطنية، والتكامل الاقتصادي المدروس، وهو ما تجلّى بوضوح في مضامين البيان المشترك، الذي لم يقتصر على توصيات شكلية، بل يحمل مؤشّرات على مسار متصاعد من التنسيق والتفاعل المتعدد الأوجه.
في السياق، عكست المحادثات المعمّقة بين قائدي البلدين، وما تبعها من توقيع على مذكرات تفاهم في مجالات حيوية – رؤية مشتركة للواقع الإقليمي والدولي، حيث لم تُغْفِل الملفات الساخنة وعلى رأسها المأساة الفلسطينية.
وتضمّن البيان تأكيد قائدي البلدين على ضرورة “مواصلة العمل، بالتنسيق مع أشقائهم العرب سواء على المستوى الثنائي أو ضمن إطار جامعة الدول العربية، لتعزيز مسيرة العمل العربي المشترك ولمواجهة التهديدات والتحديات المتعددة الأوجه التي تهدد أمنها واستقرارها”.
كما تطرّقا القائدان إلى الأوضاع المأساوية في فلسطين، معبّرين عن “استهجانهما واستنكارهما الشديدين لحرب الإبادة وسياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها سلطات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وما خلفته من مآسي غير مسبوقة، فضلا عن الدمار المروع الذي طال البنية التحتية الحياتية من مستشفيات ومدارس ودور العبادة في القطاع”.
رؤية الجزائر وسلطنة عمان لهذه القضايا التي تتصدّر أولويات العمل العربي، تقوم على منظور واقعي يسعى لتفعيل أدوار ملموسة في المحافل الدولية، خاصة من خلال عضوية الجزائر في مجلس الأمن، والدبلوماسية العُمانية التي تنشط بفعالية في كواليس الوساطات الإقليمية، وهذا التلاقي في الرؤى لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تراكم منسجم منذ زيارة الرئيس تبون إلى مسقط سنة 2024، وما تبعها من ديناميكية متسارعة على مستوى اللجنة المشتركة بين البلدين.
وفي السياق، أشاد الجانب العماني، وفق البيان المشترك، بـ “المساعي الحثيثة والجهود المكثّفة التي تقوم بها الجزائر دفاعا عن القضية الفلسطينية في مجلس الأمن باعتبارها عضوا فيه، ممثلا عن المجموعة العربية”، فيما نوّه الجانب الجزائري بـ “الدور البناء الذي تضطلع به سلطنة عمان للتوسط بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران”.
مبـادلات ومشاريــع
علاوة على ذلك، فإنّ الأهمية الحقيقية لهذه الزيارة لا تكمن فقط في بعدها السياسي، بل في طبيعة الشّراكة الاقتصادية التي تمّ تكريسها بين البلدين. فالتعاون لم يعد محصوراً في المبادلات التجارية، بل بات يمتد إلى مشاريع إنتاجية ضخمة مثل مركب الأسمدة في أرزيو، واستثمارات مستقبلية في قطاعات السيارات والطاقة والأدوية، وهو ما يعكس تحولا نوعياً في العقلية الاقتصادية العربية، من اقتصاد ريعي أو تبادل سلعي، إلى اقتصاد إنتاجي مشترك قائم على التكنولوجيا والتصنيع والاستثمار طويل الأجل.
وبهذا الخصوص عبّر البلدان عن “تشجيعهما للمشاريع الاستثمارية المشتركة للقطاعين العام والخاص، والتي ستضاف إلى سجل الشّراكة الناجحة في إنتاج المخصبات والأسمدة والأمونياك واليوريا، بالمنطقة الصناعية بأرزيو، بقيمة 2.4 مليار دولار”.
وأشاد البلدان بالاتّصالات الجارية لتجسيد مشاريع في مجال “صناعة السيارات والطاقة والأدوية”، وطالبا بـ “التعجيل بتجسيدها وضرورة استكشاف مجالات أخرى للشراكة والتعاون وتبادل المنافع والمصالح بين البلدين الشقيقين”.
ولا شك برأي مراقبين، أنّ إنشاء “الصندوق الجزائري العماني للاستثمار” يمثّل أحد الأدوات الذكية لتحقيق هذا الهدف، من خلال تمويل مشاريع بنظرة استراتيجية غير خاضعة لضغوط السوق أو لتقلبات السياسة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حرص الجانبين على إدماج التعاون في مجالات التعليم العالي والعدل والعمل والشؤون القانونية، يعكس فهماً مشتركاً بأنّ بناء علاقات متينة يتطلّب تشابكا مؤسّسياً يتجاوز الاقتصاد والدبلوماسية، نحو تناغم في الرؤية التنموية الشاملة، ما يجعل من هذه العلاقة نموذجاً لعصر ما بعد النفط، وعصر ما بعد الشّعارات.
كذلك، فإنّ توافق المواقف حول دعم العمل العربي المشترك، والوقوف الحازم ضد العدوان الصهيوني في غزة، يعكس رغبة الجزائر ومسقط في الحفاظ على خط سيادي مستقل في قراراتهما الخارجية، دون خضوع لأجندات إقليمية أو اِملاءات دولية، وهو ما يعطي وزناً معنوياً لهذا التفاهم الثنائي داخل النظام العربي الآخذ في التشكل.
وفي المحصلة، فإنّ زيارة السلطان هيثم بن طارق للجزائر، جاءت وفق ملاحظين، لتؤسّس لتحالف أخوي فعّال، يوازن بين المبادئ والمصالح، وبين التاريخ والمستقبل، ويعطي أملاً بأن التعاون العربي النموذجي، إذا ما بُني على أسس واقعية وسيادية، يمكن أن يثمر نماذج حقيقية قادرة على الصمود في وجه الأعاصير السياسية والاقتصادية والتدخلات الأجنبية، في زمن تتلاشى فيه كثير من الثوابت والمبادئ، تثبت الجزائر وسلطنة عمان أنّ الاعتدال لا يعني الضعف، بل قد يكون الطريق الأكثر نجاعة لبناء مستقبل عربي مشترك متزن وفاعل.
وتبني الجزائر وسلطنة عمان علاقاتها المتميزة على أسس إرث تاريخي من الروابط التاريخية والثقافية، توّجت البيان المشترك، حيث أشادا بعمق “الرّوابط الإنسانية التاريخية والثقافية التي تجمع الشعبين الشقيقين، وبالدور المتميز الذي تضطلع به الجالية الجزائرية في سلطنة عمان، ودورها في تعزيز العلاقات الثنائية”.