أكد أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة زيان عاشور بالجلفة، البروفيسور قن محمد، أن الجزائر اليوم استردت هيبتها وكبرياءها، من خلال ما تتمتع به من ثقة وسمعة على المستوى الدبلوماسي العالمي، وأحدثت نقلة غير مسبوقة في تاريخها في مجال التنمية، وحققت معدلات إيجابية في مختلف المجالات. كما أوضح أن سياسة الدولة بعد الاستقلال جاءت، في كثير من جوانبها، امتدادا لروح بيان أول نوفمبر، الذي دعا إلى تأسيس دولة ذات سيادة ضمن المبادئ العربية الإسلامية.
قال البروفيسور قن محمد في حديثه لـ “الشعب” “إن الاحتفال بالذكرى 63 لاسترجاع السيادة الوطنية هي لحظة تأمل عميق في ما تحقق من مكاسب”، منطلقا من التعليم العالي الذي يعد، حسبه، “نموذجا دالا على حجم التحولات”، مذكرا “بأن الجزائر المستقلة بدأت بجامعة واحدة وعدد محدود من الطلبة (أقل من 3000 طالب في 1962)، وحتى من جهة التأطير، كان التأطير محدودا جدا وفي مجالات متخصصة للغاية.
بينما باتت اليوم، في نهاية الموسم الجامعي 2024–2025، تحتضن أكثر من مليون و812 ألف طالب، موزعين على أكثر من 54 جامعة، و40 مدرسة عليا، و13 مركزا جامعيا”. ويرى الأستاذ أن هذه القفزة العددية والمؤسساتية تمثل أحد أبرز مؤشرات التنمية في الجزائر، خاصة أن الجامعات أصبحت لا تقتصر على التعليم النظري، بل تساهم بشكل فعلي في دعم الاقتصاد الوطني، سواء من خلال التكوين النوعي أو عبر انخراطها في المقاولاتية والابتكار.
وأبرز المتحدث أن “الجامعة الجزائرية دخلت مرحلة جديدة عبر الانتقال من الجامعة الكلاسيكية إلى نموذج “جامعات الجيل الرابع”، حيث تم تحويل قرابة 23 جامعة جزائرية من الطراز الكلاسيكي إلى جامعات عصرية، تعرف اليوم بجامعات الجيل الرابع”. وأضاف أنها “أصبحت تولي أهمية بالغة للمشاريع الريادية، وتعمل على ربط المعرفة بسوق العمل، وذلك من خلال دعم المقاولاتية، وإنشاء أكثر من 117 حاضنة أعمال، و107 مركز تطوير، و55 دار للذكاء الاصطناعي، إلى جانب اهتمام أكثر من 200 ألف طالب بمجال الابتكار وريادة الأعمال”، ولفت إلى أن الجامعة أصبحت شاهدا حيا على تحولات الجزائر، وأنها لم تعد معزولة، بل أصبحت شريكا في دعم الاقتصاد الوطني.
وأوضح البروفيسور قن أن هذه الأرقام ليست مجرد إنجازات إدارية، بل هي تعبير عن الرؤية الاستراتيجية للدولة الجزائرية، التي تسعى إلى جعل الجامعة رافعة اقتصادية وثقافية، وليست مجرد فضاء تعليمي تقليدي.
الاستقـلال حـرر التنمية
أكد البروفيسور قن محمد أن مسار التنمية في الجزائر بعد الاستقلال لم يكن فقط تحسينا لواقع سابق، بل تصحيحا لحرمان تاريخي فرضه الاستعمار، الذي حصر البنى التحتية الحيوية في مناطق الشمال، وخدم بها مصالحه فقط.
وقال “إن سياسة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، ما يميزها هو محاولة تحقيق ما يسمى بسياسة التوازن الجهوي. الدولة الجزائرية الجديدة اليوم تتجه نحو سياسة تنمية متكاملة شاملة بمختلف مناطق القطر الجزائري، والدليل على ذلك اهتمامها بالمشاريع الكبرى، مثل مشروع السكة الحديدية، وهو مشروع استثماري كبير جدا، هذا المشروع، الذي كان مجرد مخططات في العهد الاستعماري، جسدته الدولة الجزائرية ميدانيا اليوم”.
وأضاف “نلاحظ أن شبكة السكة الحديدية، التي كانت في السابق تقتصر على ثلاثة خطوط، في الشرق من عنابة إلى مدينة تقرت، وفي الوسط من البليدة إلى مدينة الجلفة، وفي الغرب من وهران إلى بشار، قد تم توسيعها. فقد مددت هذه الخطوط نحو الجنوب الكبير، بل فتحت طرق برية حتى خارج الحدود، مثل الطريق نحو موريتانيا”.
وأوضح أن مشاريع مثل السكة الحديدية، والطرق البرية، واستحداث الجامعات والمراكز والمعاهد في مختلف مناطق الوطن، فضلا عن تجديد المطارات وإنشاء أخرى جديدة، تعد من أبرز مظاهر تحقيق ما يسمى بسياسة التوازن الجهوي.
واعتبر الأستاذ قن أن هذه المشاريع الكبرى تمثل امتدادا فعليا لاستقلال الجزائر، وتعكس إرادة حقيقية في تصحيح التفاوتات الجغرافية التاريخية، وتحقيق العدالة في توزيع التنمية، وكسر المركزية التي فرضها المستعمر.
علـى النخبـــة أن تكـون في خدمة المجتمــع..
وفي ظل هذا التوسع التنموي، أبرز المتحدث أهمية دور النخبة الجزائرية اليوم، خاصة الجامعية، قائلا “ على إطارات الجامعة المساهمة في هذا المسار التنموي، ولا بد ألا تبتعد عن هذا المسار، وأن تظل نخبة حقيقية في مواقفها تقدم دعمها لهذه السياسة التنموية الشاملة لمختلف القطاعات، لا سيما فيما يتعلق بتكوين الكوادر الوطنية وربطها بمسار التنمية”.
ولفت إلى أن “الدولة، نظريا، تخطط لإحداث شراكة بين الجامعة والمجتمع، وعلى النخبة الجامعية تحقيق هذه الشراكة، باعتبارها المحرك والمدعم والفاعل في العملية، والمفتاح الرئيسي في ذلك هو دعم سياسة المقاولاتية، التي تسعى الدولة اليوم إلى تجسيدها ميدانيًا”.
ضمانـة للاستقـرار والتنميـة
واعتبر الأستاذ قن الذاكرة الوطنية، “الإسمنت المسلح الذي يربط أفراد المجتمع”، في ظل التحديات الراهنة التي تستهدف وحدة الجزائريين من خلال التشكيك في مرجعيتهم التاريخية والدينية.
وشدد على أن “الجزائر عملت على المحافظة على هذه التنمية، من خلال الاهتمام بالذاكرة الوطنية، التي تربط بين أبناء هذا البلد، خاصة في ظل التحديات التي تشهدها الجزائر اليوم، والتي تسعى إلى تفريق هذا المجتمع، وغرس مبادئ دخيلة على إطاره، ومحاولة زرع الفتنة”، مشيرا إلى أن نجاح التنمية مبني على الوعي الجماعي بالمسار، لا على القطيعة معه.
ودعا أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الجلفة الشباب إلى ضرورة المحافظة على هذا الوطن وقيمه، وأن يكون لهم دور إيجابي ومواقف بطولية في هذا المسار. كما حذرهم من “تصديق بعض الأفكار الهدامة، أو الانسياق في بعض المسارات الفكرية والمذهبية التي تحطم ذاكرتنا، ومبادئنا، ومرجعيتنا الدينية”.