شارك في حـراسـة موكب بن بلة لإلقاء أول خطاب ...

“العم عبـــد الكـــــريم“ إيقــونة في حــب الوطــن يستــذكـــر أيام الثـــورة والرجـــال

البليدة: لينة ياسمين

تراه بسيطا ومتواضعا وحينما يبتسم ترتسم من على وجنتيه نظرة الوقار والحشمة، يستحيل أن يخرج الى التسوق أو زيارة الأهل و لقاء الأحبة و الأصدقاء دون أن يتعطر ويلبس الأنيق من اللباس، زاد في طلعته الطول والجسم المستقيم  رغم أنه تجاوز الـ 70 ، ومع ذلك  تراه ما يزال يحافظ على وسامته ووجهه الطلق الصبوح يوحي بالرزانة والهدوء والاحترام، من المستحيل أن يلتقي بطفل أو حبيب إلى قلبه وهو في غدو أو قادم وجيبه فاض من الحلوى، هي عادة أصبحت تلازمه منذ سنوات.

  وسط هاته الهامة كلها يخفي العم عبد الكريم سرا قلما يبوح به، كان أحد الثائرين في وجه أعتى استعمار عرفته البشرية، شارك كبقية أقرانه في ثورة التحرير وعمره لم يتجاوز الـ 15، وضمن له اسما اعترف به قادة الثورة، فقلّدوه وسام المجاهد على الورق، فنقشه هو على قلبه الذي قال أنه في كل نبضة تسمع اسم وطنه « الجزائر».

طفولة ثائرة ووعي  لمعنى التضحية والوطنية ...

 إلتقت « الشعب « بالطفل والشاب الثائر عبد الكريم من عائلة عبدادو، وفي أنس بالمجلس فتح قلبه وتحدث في راحة وقال:» كنت في الـ 15 من العمر، ارتاد المدرسة مثل أترابي بـ « الحمدانية « ( كرارش )  في المدية، نجحت في السنة الأولى والثانية والثالثة وفي السنة الرابعة أي في العام 1956 ، بدأت أميز جيدا بين مواطني وعدو الجزائر، وفقهت معنى كلمة « الاستعمار الفرنسي «، بل أصبحت أعتقد في إيمان قوي أن علي أن أفعل شيئا لبلدي ولشعبي، ونجحت وأصبحت في تربية واختبار أتكفل بالتبضع من البليدة ونقل المؤونة الى المجاهدين بالحمدانية، لكن دون أن ألتقي بأي منهم».
وأضاف: «هكذا أصبحت يومياتي، نقل المؤونة من مواد غذائية وحاجيات ضرورية للثوار، ولكن وفي احدى المرات وبعد أن اقتنيت كل ما كان مدونا في ورقة تسلمتها، توقفت الحافلة لنصب عسكر «الفرنسيس» حاجزا أمنيا للمراقبة والتفتيش وكنت ضمن ركاب الحافلة، اقترب مني أحد العسكر وسأل بعد أن أنزل ورفاقه أمتعتنا وأغراضنا المصفوفة فوق الحافلة، من أين اقتنيت تلك الأغراض،  وفي تفكير سريع تنبّهت للسؤال وعلمت بأن الامر أصبح مريبا، وتذكرت التعليمات وأجبته بكل ثقة وعفوية «من التاجر اليهودي بن سعيد» ، وعلمت عندها بأن العسكر عثروا  في قفتي على 3 مسدسات و 3 بطاريات شحن».
تنهد عبد الكريم وواصل في الإدلاء بشهادته:» أوقفوني على جنب وحضر والدي وأكد لهم بأنه أرسله للتبضع مثل كل مرة لكنه لا يعلم عن أمر آخر، « احتجزوني بمحتشد « شنو « بطريق الشفة ورفضوا الإفراج عني وظللت هناك مدة شهرين كاملين» .  ويواصل في الاستذكار ويقول: « ثم أخذوني إلى ضاحية بـ « عين وسارة « ومكثت هناك عامين كاملين لم أخرج لزيارة أهلي مطلقا.

قصة صداقة مع جندي ألماني بمنطقة «فردان»...

اطلعنا عبد الكريم عن جوانب أخرى من النضال في الزنزانة الاستعمارية التي تعد مدرسة الوطنية بامتياز قائلا: « لما بلغت الـ 18 كنت دوما محتجزا  بـمحتشد في عين وسارة، وصادف ذلك العام 1958، لم يجد عسكر فرنسا حرجا ولا مشقة في إجباري على التجنيد، واختاروا لي منطقة « فاردان « الفاصلة بين الحدود الفرنسية والألمانية، تعرفت وأنا هناك على جندي ألماني مسؤول عن خزنة السلاح وتوطدت العلاقة بيننا وأصبحنا أصدقاء نتسامر ونضحك ونتبادل النكت والطرائف، ولم يمض وقت طويل حتى تعرفت على جزائري من منطقة القبائل يعمل سائقا لدى عسكر فرنسا، أصبح يتردّد لدي كثيرا وكان في كل مرة ولم أكن أعلم بنواياه يختبرني ويطرح أسئلة مفخّخة وكنت أجيب في عفوية بعد أن أخبرته عن حقيقة تجنيدي وأين كنت محتجزا».
توقف قليلا وواصل سرد قصته الكاملة مع الألماني:»بعد أن اطمأن إلي أخبرني بهويته على أنه يعمل لصالح « الجبهة « ـ أي جبهة التحرير الوطني ـ ، و حدد لي موعدا مع ضابط جزائري إلتقيته في موعد مضبوط وكان يرتدي زي ضابط شرطة فرنسي، ومن جملة ما سألني عدّد لي أسماء إن كنت أعرفها، و لما تحقق واطمأن هو بدوره همس في أذني اليمنى حتى لا تسمع يسراي وقال: « الجبهة تنظر إلى أشخاص من أمثالي» ، واختفى وكأنه طيف شبح تراءى وسط الضباب «.

مهمة غير مستحيلة  ...

«كان كلام وطلب الضابط الجزائري في زي البوليس محيرا ، ما الذي يمكنني أن أفعله وأنا بعيد عن الوطن وعن الاهل والثوار، ماذا كان يقصد الضابط من كلامه، لماذا اختارني أنا ما الذي بحوزتي حتى أفعله، وبقيت أياما وأنا مرتبك وأفكر ليل نهار، حيرة وقلق خنقاني وأصبحت قليل النوم، ولكن الله يهدي من يشاء، وتبادرت الى ذهني فكرة مجنونة، فيها من المغامرة والخطر ما قد يعجل في موتي، توكلت وأسندت أمري الى خالقي». هكذا قال عبد الكريم قبل ان يسترسل في الكلام». «خطّطت جيدا وضبطت موعدا مع صديقي الألماني على أن نسهر ونطيل اللهو والسمر في ليلة نهاية الاسبوع، تمتع الجندي الالماني وشرب في تلك الليلة الى درجة الثمالة، عدنا الى الثكنة وهو لا يقوى على رفع سبابته، سلبته مفاتيح مخزن الاسلحة واخترت من السلاح 3 رشاشات من نوع « ماط 49 « و10  قنابل يدوية، وأعدت المفاتيح لصاحبها الذي كان يغط في نوم عميق، وتركته وعدت الى موقعي بالثكنة بعد أن أخفيت السلاح بسلة للمهملات ووضعت علامة عليها، وفي الصباح  لما زارني مواطني من منطقة القبائل أخبرته عن مكان السلاح ونجحت في مهمتي».
 لكن الألماني المسكين تعرض بعد 8 أيام للعقوبة وتم تحويله الى مكان آخر لاتهامه بالاهمال ولم يتفطن لفعلتي، وبعد أيام تم ضبط موعد ثان مع الضابط الجزائري والتقيت به وشكرني على صنيعي وسلمني شهادة اعتراف لا أزال أحتفظ بها مذكور فيها ما قمت به، وفي العام 1959 تم تحويل دفعتي على مرسيليا ثم على تلمسان ثم على ندرومة، خططت رفقة مجموعة من الشباب ـ كان عددنا 36 ـ على الهروب و نجحنا وكان ذلك ليلة الاحتفال بالسنة الميلادية للعام  1960، وأخذنا معنا سلاحا سرقناه وأحذية وأغراض أخرى، والتحقنا بالمجاهدين في تخطيط مدبّر بمغارة «بني عاد « ـ كان طولها يصل الى الحدود المغربية مسافة 145 كيلومترا ـ ، كانت مغارة مجهزة بكل الضروريات بما فيها المستشفى.

مرافقة موكب الرئيس الراحل  بن بلة...

وبقيت هناك بمغارة «بني عاد» رفقة المجاهدين الى غاية فجر استرجاعنا لاستقلالنا، لم أزر أهلي ولم ألتق بوالدي وأشقائي إلا عبر الرسائل، اطلعهم على أحوالي وأطمئن عليهم، ويشاء القدر أن أحظى بشرف المشاركة في مرافقة موكب الرئيس الاول للجزائر الراحل أحمد بن بلة رفقة كتيبتي، حينما تنقل في موكب رسمي لإلقاء أول خطاب شعبي  بوهران في تاريخ الجزائر الحرة، ألقاه بساحة السلاح المشهور بـ « بلاس دارم « .
 وعدت الى أهلي بعد ان تم الإذن لبقية عناصر جيش التحرير المرابط بالحدود الدخول، ووجدت عائلتي في حال يرثى له مثل عدد كبير من العائلات الجزائرية، عدت الى حياتي الاجتماعية  وحاولت قدر المستطاع تعويضهم عن  تلك الايام الحزينة والغربة، لتبدأ مرحلة ثانية  في حياتي و قصة معركة كنت أظن أنها انتهت، لما تم استدعائي الى الحدود الغربية للمشاركة من جديد في حقبة مهمة من تاريخ الجزائر أطلق عليها « حرب الرمال « .

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024