طباعة هذه الصفحة

بين أزمة الحكـم وتنامـي الخطـاب العنصري

الجمهورية الفرنسية الخامسة في مهبّ الريح

محمد لعرابي

 حجب الثقة عن الحكومة تجسيد لانهيار متواصل في شرعية النظام السياسي الفرنسـي

 أزمة عميقة في التداول الديمقراطي للسلطة وتفاقم انعدام الثقة بين الشارع والمؤسسات

تعيش باريس اليوم، واحدة من أعقد أزماتها السياسية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958. سقوط حكومة فرانسوا بايرو، بعد تسعة أشهر فقط من توليها السلطة التنفيذية، إثر تصويت الجمعية الوطنية على حجب الثقة، لم يكن مجرد أزمة عابرة في التداول الديمقراطي للسلطة، بل تجسيد لانهيار متواصل في شرعية النظام السياسي الفرنسي وتفاقم انعدام الثقة بين الشارع والمؤسسات.

حاز اقتراح حجب الثقة على تأييد 364 نائبًا مقابل 194 فقط دعّموا بايرو، في لحظة كشفت عمق التصدع داخل المشهد الحزبي وأبرزت هشاشة السلطة التنفيذية في إدارة التوازنات السياسية والاقتصادية.
هذا السقوط يجعل من بايرو رابع رئيس وزراء في عهد إيمانويل ماكرون خلال أقل من عامين، وهو رقم قياسي يعكس درجة الاضطراب السياسي الذي يعيشه قصر ماتينيون، ويؤكد أن الأزمة لم تعد تتعلق بشخصيات الحكومات المتعاقبة، بل بمستقبل النظام السياسي ذاته.
من الناحية الاقتصادية، لم يتردد بايرو في الإشارة إلى أن السبب المباشر لحجب الثقة يكمن في العجز المالي الهائل، الذي بلغ ضعف الحد المسموح به أوروبياً (3% من الناتج)، بينما وصل الديْن العام إلى أكثر من 113% من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن هذه الأرقام، رغم خطورتها، لا تفسر وحدها السقوط المدوي للحكومة.
فالأزمة أعمق من أن تُختزل في لغة الأرقام؛ إنها أزمة شرعية سياسية تضاعفت بفعل شعور متنامٍ لدى الفرنسيين بأن سياسات الحكومات المتعاقبة لم تعد تستجيب لمشاغلهم الحقيقية: البطالة، غلاء المعيشة، التفاوت الاجتماعي وتآكل الخدمات العامة. لقد تحول خطاب «الإصلاح المالي» إلى شماعة تعلق عليها الحكومات فشلها، بينما يتسع الخرق الاجتماعي ويزداد الاحتقان الشعبي.

تفاقم الخطاب العنصري واليمين المتطرف

وسط هذا الانهيار في الثقة، برز خطاب آخر أكثر خطورة: الخطاب العنصري واليميني المتطرف. فمع تراجع الأحزاب التقليدية وانقسام اليسار، وجدت قوى اليمين المتطرف، وعلى رأسها حزب «التجمع الوطني» بزعامة مارين لوبان، فرصة ذهبية لتوسيع قاعدتها الانتخابية عبر الاستثمار في أزمات الهوية والهجرة والأمن.
خطاب الكراهية لم يعد هامشيًا، بل صار حاضرًا في النقاشات السياسية والإعلامية، متغذياً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. فكلما تعمق العجز المالي، وازدادت الضرائب، وارتفعت معدلات البطالة، كان المهاجرون والفرنسيون من أصول غير أوروبية هدفًا سهلاً للتحريض. وفي ظل هذا المناخ، تحول النقاش السياسي من معالجة جذور الأزمة إلى تبادل الاتهامات حول الهوية والاندماج، ما يعكس انحراف الديمقراطية الفرنسية عن مبادئها الجمهورية.

أزمة النظام السياسي الفرنسي

الأزمة الحالية تكشف عن حدود النظام شبه الرئاسي للجمهورية الخامسة، الذي صممه الجنرال ديغول لضمان الاستقرار التنفيذي. إلا أن ما يحدث اليوم يشير إلى أن هذا النموذج لم يعد يواكب تحولات المجتمع الفرنسي، حيث أدت الأغلبية البرلمانية الهشة والانقسام الحزبي العميق إلى شلل حكومي مستمر. إن سقوط أربع حكومات في ظرف قصير، يؤكد أن الرئاسة نفسها لم تعد قادرة على فرض رؤيتها أو توفير قاعدة برلمانية متينة. بل إن الرئيس ماكرون، الذي جاء بمشروع لإعادة إحياء «المركزية الليبرالية»، يجد نفسه مضطرا إلى البحث عن تحالفات مع اليسار أو الوسط، وهي تحالفات هشة قد لا تصمد أمام الضغوط الاجتماعية المتصاعدة.

انعكاسات اجتماعية خطيرة

أخطر ما في هذه الأزمة، وفق مراقبين، أن تداعياتها تتجاوز الأروقة السياسية لتطال النسيج الاجتماعي الفرنسي. فشعور فئات واسعة من المواطنين بالتهميش، وتنامي النزعات الشعبوية، كلها عوامل تهدد بتفجير الشارع مجددًا، كما حدث مع حركة «السترات الصفراء». تزايد الحركات الاحتجاجية ضد سياسات التقشف والضرائب يلتقي مع صعود الخطاب العنصري، ما يجعل الوضع الفرنسي برمته قابلاً للانفجار.
ولعل اللافت، أن القوى السياسية لم تعد تقدم حلولاً عملية، بقدر ما تتصارع على السلطة، تاركة فراغًا تستغله الحركات المتطرفة لنشر خطاب الكراهية.
لقد بات واضحا أن الجمهورية الخامسة تمرّ بأزمة بنيوية عميقة، ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكمات طويلة من سوء إدارة الأزمات الاقتصادية، تآكل الثقة في الطبقة السياسية وانهيار السردية الجمهورية الجامعة.
اليوم، فرنسا ليست فقط أمام تحدي البحث عن رئيس وزراء جديد قادر على تشكيل حكومة قابلة للحياة، بل أمام سؤال أكبر: هل مازال النظام السياسي القائم قادرًا على ضمان الاستقرار وحماية مبادئ الجمهورية؟
في ظل عالم يشهد تحولات جذرية وصراعات على الموارد والهوية، يبدو أن فرنسا تخاطر بأن تتحول إلى مسرح لصراع داخلي بين قوى الاعتدال واليمين المتطرف. وإذا استمر الخطاب العنصري في التنامي، فإن البلاد ستجد نفسها أمام أزمة أخلاقية عميقة تضاهي أزمتها المالية والسياسية.
إن سقوط حكومة بايرو لم يكن سوى عرضًا من أعراض أزمة أشمل. فالجمهورية الخامسة تقف اليوم على مفترق طرق؛ إما أن تنجح النخب السياسية في استعادة ثقة الفرنسيين عبر مشاريع عادلة تضمن الكرامة والمساواة، أو تترك الساحة فارغة أمام اليمين المتطرف الذي لا يقدم حلولًا سوى الكراهية والانغلاق. وفي كلتا الحالتين، يبقى المستقبل الفرنسي على المحك، وقد يكون القادم أخطر إذا لم تتم معالجة الجذور العميقة لهذه الأزمة.