طباعة هذه الصفحة

البحــث العلمـي والابتكـار.. جســور للتجـارة البينيـة

الجامعة الجزائرية في قلـب التكامـل الإفريقـي

سارة بوسنة

 مشاريع لجعل القارة أكثر استقلالية من حيث الحلول والموارد

 برزت الجامعة الجزائرية كفاعل استراتيجي يتجاوز دورها التقليدي في التكوين الأكاديمي، لتصبح رافعة حقيقية للابتكار والتنمية الاقتصادية. وإذا كان معرض التجارة البينية الإفريقية، الذي تختتم أشغاله، اليوم، قد شكّل مناسبة لاستعراض القدرات الاقتصادية للقارة، فإنه فتح أيضًا نافذة واسعة على دور الجامعات ومراكز البحث في صياغة مشروع التكامل الإفريقي.

 لم يكن المعرض مجرّد منصة لتوقيع الاتفاقيات التجارية أو عرض المنتجات، بل كان فضاءً للتفكير في المستقبل، حيث يلتقي الاقتصاد بالعلم، والشركات الناشئة بالجامعة، والشباب بالطموح القارّي. في هذا السياق، أخذت الجامعة الجزائرية مكانة متقدمة باعتبارها قادرة على توفير ما تحتاجه الشركات من ابتكارات وكفاءات، وما تتطلبه القارّة من حلول معرفية لمشاكلها المزمنة.
الجامعة الجزائرية، التي تضمّ اليوم مئات الآلاف من الطلبة عبر مختلف التخصّصات، نجحت في السنوات الأخيرة في تحقيق نقلة نوعية، سواء عبر بعث نظام وطني لكشف الاقتباس، أو من خلال إعادة تفعيل قواعد البيانات العالمية، أو عبر تشجيع البحث التطبيقي الموجّه نحو حاجيات المجتمع والاقتصاد. هذه الديناميكية تتقاطع بشكل مباشر مع أهداف معرض التجارة البينية، الذي يسعى إلى جعل إفريقيا أكثر استقلالية من حيث الحلول والموارد.
أحد أبرز محاور اللقاءات الجانبية في المعرض، تتمثل في إبراز دور الابتكار كأداة للتكامل. وهنا كانت الجامعة في صميم النقاش، باعتبارها المصدر الأول للمعرفة العلمية والتكنولوجية. مشاريع عديدة شارك فيها شباب جزائريّون خرجت من رحم الجامعات، بدءًا من تطبيقات في الدفع الإلكتروني والخدمات المالية، مرورًا بمنصات رقمية للتسويق الزراعي، وصولًا إلى حلول تعتمد الذكاء الاصطناعي في مجالات الصحة والطاقة. هذه المشاريع، وإن كانت لا تزال في بداياتها، إلا أنها تعكس تحول الجامعة من فضاء تقليدي للتعليم إلى مختبر مفتوح للتجارب الاقتصادية.
في هذا السياق، أكّد وزير التعليم العالي والبحث العلمي، كمال بداري، خلال زيارته لجناح الابتكار في المعرض، أنّ الجامعة الجزائرية أصبحت اليوم رافعة استراتيجية للابتكار والتنمية الاقتصادية الإفريقية. وأضاف أنّ العارضين من الطلبة والباحثين الجزائريّين كان لهم النصيب الأوفر في نسخة هذا العام، حيث تمكّنوا من توقيع عدة اتفاقيات مع شركاء أفارقة في مجالات كالزراعة الذكية، الإنتاج الحيواني، العلوم الطبية والذكاء الاصطناعي، في خطوة تجسّد التقاء الجامعة بالسوق الإفريقية وتؤكّد أنّ الشباب الجامعي يمكن أن يكون فاعلًا اقتصاديًا مباشرًا.
لم تقتصر مساهمة الجامعة الجزائرية على الجانب التكنولوجي فحسب، بل شملت أيضًا تكوين الكفاءات. فالشركات الناشئة التي حضرت المعرض في حاجة ماسة إلى مهندسين، مبرمجين، اقتصاديّين، وخبراء في اللوجستيك، وهو ما توفّره الجامعات. هذا الربط بين التكوين الأكاديمي وحاجيات السوق الإفريقية، يشكّل ركيزة أساسية لتحقيق التكامل.
القارّة التي تعاني من نزيف الأدمغة، تجد نفسها اليوم أمام فرصة جديدة للاحتفاظ بعقولها الشابة، عبر توفير فضاءات عمل وابتكار داخل حدودها. ومن جهة أخرى، أبرز المعرض أنّ التكامل الإفريقي لا يقتصر على تبادل السلع، بل يشمل أيضًا تبادل المعرفة. وهنا برزت فكرة الشراكات بين الجامعات الإفريقية، حيث يمكن لمراكز البحث الجزائرية أن تتعاون مع نظيراتها في كينيا، نيجيريا أو جنوب إفريقيا لتطوير حلول مشتركة في مجالات مثل الطاقة المتجدّّدة، الزراعة الذكية أو الرّقمنة. هذه الشراكات الأكاديمية قد تشكّل الأساس لاندماج اقتصادي أعمق، لأنها تبني روابط مستدامة بين العقول قبل أن تبنيها بين الأسواق.
الجامعة الجزائرية تملك كذلك ميزة جغرافية وإستراتيجية، بحكم موقع البلاد كبوابة بين إفريقيا وأوروبا، ما يجعلها مؤهّلة لتكون مركزًا إقليميًا للأبحاث والابتكار يخدم القارّة بأكملها. وإذا ما تمّ استثمار هذه المكانة بذكاء، يمكن للجزائر أن تتحول إلى قطب علمي-اقتصادي، على غرار التجارب التي عرفتها بعض الدول الآسيوية.
لكن التحديات لا تزال قائمة، فالكثير من الباحثين أشاروا خلال فعاليات المعرض، إلى أنّ العلاقة بين الجامعة والمؤسّسة الاقتصادية ما زالت بحاجة إلى تعزيز، إذ غالبًا ما تنظر الشركات إلى الجامعة كمصدر للشهادات أكثر من كونها مصدرًا للحلول. بالمقابل، يحتاج الوسط الجامعي إلى آليات أوضح لتحويل براءات الاختراع إلى منتجات قابلة للتسويق. وقد وضع المعرض هذه القضية على الطاولة، وفتح نقاشًا حول كيفية تحويل الأفكار الجامعية إلى مشاريع تجارية تساهم في التجارة البينية.
في شهادات عدة، أكّد شباب باحثون أنّ مشاركتهم في المعرض كانت بمثابة فرصة للانتقال من فضاء المختبر إلى فضاء السوق. أحدهم تحدّث عن تطويره لتقنية لمعالجة المياه داخل الجامعة، وكيف أنه وجد في المعرض فرصة للتواصل مع شركاء أفارقة يبحثون عن حلول مماثلة. هذه التجارب تبين أن الجامعة ليست بعيدة عن الواقع الاقتصادي، بل قادرة على تقديم حلول عملية لمشاكل حقيقية تواجه القارّة.
كما أنّ إدماج الطلبة في مثل هذه الفعاليات يمنحهم أفقًا جديدًا، فبدل أن يكون هدفهم الوحيد هو التخرّج والحصول على وظيفة تقليدية، يمكنهم أن يحلموا بأن يصبحوا رواد أعمال، وأن تتحول أفكارهم إلى شركات ناشئة قادرة على المنافسة إقليميًا ودوليًا.
الجزائر بدورها أظهرت التزامًا واضحًا بهذا التوجّه، من خلال سياساتها الأخيرة الداعمة للبحث العلمي والابتكار. إطلاق شبكة وطنية لمراكز الإبداع، وتوسيع برامج التعاون مع الجامعات الإفريقية، كلها خطوات تؤكّد أنّ الجامعة لم تعد مجرّد مؤسسة تعليمية، بل أصبحت رافعة للتنمية. وإذا ما استُثمرت هذه الديناميكية على المستوى القاري، يمكن أن تتحول إلى قوة دافعة للتكامل الإفريقي بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية.
المعرض كشف أيضًا، عن حاجة ماسة إلى جسور بين الجامعة والقطاع الخاص. فالشركات الكبرى التي شاركت في الفعالية تبحث عن حلول مبتكرة لخفض التكاليف وتحسين الإنتاجية، وهو ما تستطيع الجامعات تقديمه عبر فرق البحث والتطوير. إقامة شراكات استراتيجية بين هذه الشركات والجامعات يمكن أن يخلق بيئة متكاملة، حيث تُترجم الأفكار الأكاديمية إلى منتجات وخدمات تجارية.
إنّ الجامعة الجزائرية لم تعد على هامش النقاش حول التجارة البينية الإفريقية، بل في قلبه. فهي التي تملك الكفاءات، وتنتج المعرفة، وتدرّب الجيل القادم من القادة الاقتصاديّين. وإذا ما تمّ ربط البحث العلمي بشكل أوثق باحتياجات السوق الإفريقية، فإنّ الجامعة ستتحول إلى محرّك رئيسي لاقتصاد القارّة. المعرض كان إشارة واضحة إلى أنّ مستقبل إفريقيا لن يُبنى فقط بالاتفاقيات الحكومية أو الاستثمارات الكبرى، بل أيضًا بقدرة الجامعات على صناعة الابتكار وربطه بالتنمية.
إنه الاستثمار في الجامعة هو استثمار في التجارة البَينية، وفي التكامل، وفي استقلالية القارّة. هذا ما أكّده معرض الجزائر، وهذا ما يحتاجه الشباب الإفريقي اليوم: فضاء يربط بين العلم والعمل، بين الحلم والواقع، بين الدراسات الأكاديمية والسوق الإفريقية.