بوابة نحو آفاق جديدة خارج الأسواق التقليدية
تنويع سلة الصادرات وتوسيع حصتها السوقية عالميا..
الانفتاح على قارة تشهد ديناميكية اقتصادية متسارعة
في خطوة جديدة تعكس حرصها على تعزيز الحضور في المحافل الإقليمية والدولية، أرست الجزائر انضمامها الرسمي إلى معاهدة الصداقة والتعاون لرابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”، وذلك خلال قمة وزراء الخارجية المنعقدة بالعاصمة الماليزية كوالالمبور. وتأتي هذه الخطوة بعد التحاق الجزائر بمنظمة شنغهاي للتعاون وبنك “البريكس”، ضمن مسعى استراتيجي لتوسيع فضاء شراكاتها خارج الدوائر التقليدية، والانفتاح على القارة الآسيوية التي تشهد ديناميكية اقتصادية متسارعة.
يرى خبراء ومراقبون أنّ هذا التوجّه يعكس إرادة الجزائر في تنويع شراكاتها الاقتصادية والاستراتيجية، خصوصاً مع دول جنوب شرق آسيا التي تمثّل أسواقاً واعدة في مجالات تصدير الطاقة والمواد الأولية، إلى جانب ما تتيحه من فرص لاستيراد التكنولوجيا الحديثة والخبرات الصناعية المتطوّرة، بما يدعم أهداف التنمية الاقتصادية للجزائر ويعزّز مكانتها كشريك موثوق في محيط متعدّد الأقطاب.
يؤكّد الخبير في الاقتصاديات الحكومية، البروفيسور فارس هباش، في اتصال مع “الشّعب”، أنّ السياسة الخارجية والاقتصادية الجزائرية شهدت تحولا مهما مؤخّرا، بتوقيع الجزائر على وثيقة انضمامها إلى معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا TAC، التابعة لرابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”، موضّحا أنّ هذه الخطوة تتجاوز بعدها البروتوكولي أو السياسي، وتحمل في جوهرها أبعادا اقتصادية وإستراتيجية عميقة، تتماشى مع توجّه الجزائر نحو تنويع شركائها التجاريّين ومصادر دخلها الوطني، والفك التدريجي للتبعية لقطاع النفط والغاز.
في هذا الصدد، أضاف هباش، أنّ هذا الانضمام يندرج في سياق ديناميكية دبلوماسية واضحة انتهجتها الجزائر خلال السنوات الأخيرة لإعادة رسم خارطة علاقاتها الاقتصادية، وفتح آفاق جديدة خارج الأسواق التقليدية التي لطالما ارتبطت بها. ففي عالم يشهد تحولات اقتصادية كبرى وتقلّبات في أسعار الطاقة، تابع المتحدث، أصبح من الضروري بالنسبة للجزائر أن تبحث عن شركاء جدد وتكتّلات اقتصادية كبرى توفّر لها فرص تنمية متنوعة ومستدامة، خاصة وأنّ معاهدة الصداقة والتعاون التي تأسّست سنة 1976، لم تعد مجرّد وثيقة سياسية، بل أصبحت أداة لتعزيز التعاون الاقتصادي من خلال توفير إطار قانوني وتنظيمي يشجّع على خلق علاقات تجارية واستثمارية بين دول “آسيان” وشركائها الخارجيّين.
فرصة لتنويع قاعدة الصادرات
وقدّم هباش فكرة عن دول “آسيان”، مفيدا أنها تشمل اقتصادات عظمى مثل فيتنام، إندونيسيا، ماليزيا، تايلاند، سنغافورة، الفلبين، التي تعتبر من أكثر المناطق الاقتصادية ديناميكية في العالم وأسواق كبرى تمتاز بإمكانات استهلاكية واستثمارية هائلة، ما يفتح أمام الجزائر فرصا لتوسيع صادراتها خارج قطاع الطاقة، خاصة في مجالات مثل الصناعات الغذائية والفلاحية، والمنتجات نصف المصنّعة، والصناعات الكيماوية والأسمدة، والخدمات الرقمية والتكنولوجية.
وشدّد هباش على أنّ الانفتاح على هذه الأسواق يتيح للجزائر إمكانية تنويع قاعدة صادراتها، والولوج إلى تكتّل اقتصادي يبلغ تعداد سكانه أكثر من 650 مليون نسمة، بإجمالي ناتج محلي يقدّر بتريليونات الدولارات. وإضافة إلى الجانب التجاري، يمثل هذا الانضمام فرصة لجذب استثمارات من دول “آسيان”، التي تعرف بكونها من أبرز المستثمرين العالميّين في الخارج، ممّا يمكن للجزائر استقطاب استثمارات في قطاعات حيوية مثل البنية التحتية والنقل، والطاقات المتجدّدة، والصناعات التحويلية، والتكنولوجيا والرقمنة. كما سيتيح هذا الانفتاح للجزائر فرصة الإستفادة من تجارب دول “آسيان” الناجحة في مجالات إدارة المناطق الصناعية، التجارة الإلكترونية، والتكامل الاقتصادي الإقليمي. مثل هذه الخبرات تُعد ضرورية لإنجاح مشروع التحول الاقتصادي الذي تسعى إليه الجزائر.
هامش تحرّك تجاري أوسع...
من الواضح أنّ الجزائر تراهن من خلال هذه الخطوة على تعزيز مرونة اقتصادها وتقليل اعتماده على قطاع الطاقة وحده، استطرد ذات المتحدث، حيث أنّ الانضمام إلى معاهدة “آسيان” يفتح لها هامش تحرّك أوسع في الأسواق العالمية، ويسمح لها ببناء علاقات تجارية واستثمارية أكثر تنوعا، ما يعزّز قدرتها على تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
وإلى جانب الفوائد الاقتصادية، يحمل هذا الانضمام أبعادا جيوسياسية ودبلوماسية مهمة. فمن خلاله، تعزّز الجزائر حضورها على الساحة الدولية، وتثبت أنها لاعب يسعى إلى بناء علاقات متوازنة مع مختلف الأقطاب والتكتّلات. هذا التوجّه يعزّز سياسة الجزائر القائمة على تنويع شراكاتها الدولية، وتحقيق توازن في علاقاتها مع أوروبا، آسيا، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية. فانضمام الجزائر إلى معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا ليس مجرّد انضمام بروتوكولي، حسب محدّثنا، بل هو إعلان عن توجّه استراتيجي جديد يهدف إلى تنويع الاقتصاد الوطني، وجذب استثمارات أجنبية، ونقل التكنولوجيا، والتحرّر التدريجي من التبعية للقطاع النفطي. كما يعتبر خطوة قد تُشكّل بداية صفحة جديدة في مسار الاقتصاد الجزائري، وتفتح أمام الجزائر آفاقا واعدة لتعزيز مكانتها الاقتصادية والدبلوماسية إقليميا ودوليا، وتحقيق تنمية مستدامة تعود بالنفع على اقتصادها الوطني ومواطنيها.
ملامح شراكة عالمية
نفس الطرح يؤكّده الخبير الاقتصادي البروفيسور رمضاني لعلا، وهو أنّ انضمام الجزائر لمجموعة “آسيان” في ظل نظام عالمي متعدّد الأقطاب، خطوة إستراتيجية تضاف إلى قائمة المنظمات الدولية على غرار جامعة الدول العربية، الاتحاد الإفريقي، منظمة المؤتمر الإسلامي، حركة عدم الانحياز والأمم المتحدة كأعلى تنظيم دولي.
وبالتالي فهذه العضوية في العديد من المنظمات الدولية، تمكّنها من هندسة مكانة تليق بتاريخها وعقيدتها الدبلوماسية ومقدراتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي. وتصنف مجموعة “آسيان”، التي يتجاوز حجم مبادلاتها الاقتصادية مع الجزائر مليار دولار، ضمن أقوى المجموعات الاقتصادية العالمية التي تلعب دور فاعل محوري ضمن السياسة الاقتصادية العالمية الجديدة.
وركّز رمضاني على البعدين السياسي والاقتصادي، حيث ستتمكّن الجزائر من خلال عضويتها في منظمة “آسيان” من معالجة العديد من الملفات ذات البعد الإقليمي، نظرا للتوافق السياسي فيما يخص السلم العالمي وحماية حقوق الإنسان وتطبيق مبادئ العدالة واحترام حقّ الشعوب في الحرية وعدم التدخّل في الشؤون، أما على الصعيد الاقتصادي، تضم مجموعة “آسيان”، كسابع تكتل اقتصادي عالمي، دول جنوب شرق آسيا المعروفة باقتصادياتها السريعة النمو وخبرتها الطويلة في محال التكنولوجيا والموارد البشرية.
وعن القيمة المضافة التي ستجنيها الجزائر من انضمامها لهذه المجموعة، أجاب رمضاني أنّ ذلك سيمكّنها من توسيع حصتها السوقية بالأسواق العالمية وتنويع سلة صادراتها خارج المحروقات، كما ستستفيد الجزائر من شراكات اقتصادية في ظل إستراتيجيتها القائمة على تنويع الشركاء وإيجاد بدائل اقتصادية عن عائدات المحروقات، خاصة ما تعلّق بالتحول الرقمي والتكنولوجيا العالية والصناعات الخفيفة التي تتميز بها دول آسيا، حيث تتميّز سنغافورة بخبرتها القوية في تسيير الموانئ وماليزيا في الصناعات الخفيفة والأنظمة المالية الإسلامية وتايلاندا والفلبين في مجال الصناعات الخفيفة. بالمقابل ترى مجموعة “آسيان” في الجزائر الشريك الأمثل بالقارة الإفريقية كثالث أقوى اقتصاد إقليميا، عرف اقتصادها خلال السنوات الخمس الأخيرة تطورا ملحوظا خاصة ما تعلّق بتنويع إنتاجها خارج المحروقات، وإنشاء نسيج صناعي متماسك والتوجّه نحو تطوير اقتصاد المعرفة والمؤسّسات الناشئة.