طباعة هذه الصفحة

الخبير الاقتصادي هواري تيغرسي لـ”الشعب”

الجزائر تهندس مسار التكامل الإفريقي-العربي

فايزة بلعريبي

التحولات الإقليمية والدولية تفرض إعادة النظر في السياسات الاقتصادية 

الجزائر وجهة محورية للفعاليات التجارية القارية...صيت عالمي وضيافة راقية

ينتظر أن يكون المحفل القاري “إياتياف 2025”، اقتصاديا إفريقيا بتطلعات إقليمية عربية، فمن التعاون جنوب-جنوب إلى التبادل الإفريقي-العربي، حيث ينتظر أن يشهد المعرض مشاركة واسعة من دول القارة والعديد من الدول العربية لدعم التكامل الاقتصادي بين إفريقيا والعالم العربي.

الحدث لن يكون فرصة لعقد اتفاقيات شراكة واعدة بين مؤسسات وشركات اقتصادية فحسب، بل فرصة لتوطيد العلاقات البينية الإفريقية والعربية، فمن الجزائر التي أصبحت اليوم بيتا دبلوماسيا لمختلف القضايا الدولية باحتضانها لكبرى المحافل الدولية على غرار القمة العربية، قمة البرلمانات العربية، قمة الدول المصدرة للغاز، الجلسات السنوية لبنك التنمية الإسلامي، الألعاب الأولمبية للبحر الأبيض المتوسط، وغيرها من المحافل التي أثبتت قدرة الجزائر التنظيمية وإمكاناتها اللوجستية في تنظيم المواعيد العالمية، إلى قائد للدبلوماسية الاقتصادية إفريقيا وعربيا ضمن مقاربة تجمع ولا تفرق.  
ولقد بدأت بوادر نجاح الطبعة الرابعة  لمعرض التجارة البينية الإفريقية “إياتياف 2025”، تتجلى من خلال تفاعل العديد من الهيئات الاقتصادية والمالية العربية والعالمية، مع الحدث، كفرصة سانحة لعقد شراكات واعدة لا يجب تفويتها، ففي بيان صدر عن بيت التصدير الأردني، وهو هيئة رسمية تعنى بتنمية وتطوير الصادرات الأردنية، عبر من خلالها عن أهمية الطبعة الرابعة من معرض التجارة البينية التي ستنظم بالجزائر، خلال أسبوعين من الآن، والتي تمثل محطة استراتيجية في مسار التكامل العربي- الإفريقي، كما سيشكل منصة هامة لتعزيز حجم المبادلات التجارية بين دول القارة الإفريقية وبقية دول العالم، مع توسيع مجالات التعاون الاقتصادي العربي- الإفريقي، ما يفتح آفاقا جديدة للاستثمار والشراكة، حيث سيكون المعرض - حسب بيان الهيئة الأردنية - فرصة متميزة للتواصل المباشر مع رجال الأعمال والمستثمرين من مختلف الدول المشاركة، من أجل التعرف على الفرص التجارية المتاحة في الأسواق الإفريقية.
وأشاد البيان الأردني بتسخير الجزائر لكافة الإمكانات المادية واللوجستية لضمان نجاح هذه الطبعة كمحطة لانطلاقة جديدة للعلاقات الاقتصادية بين الدول الإفريقية والعربية، ما يعزز مكانة الجزائر كوجهة محورية للفعاليات التجارية القارية، تمنح فرصا حقيقية لبناء شراكات استراتيجية تدعم التكامل الاقتصادي بين إفريقيا والعالم العربي.
 وبما أن أبعاد الحدث تتعدى من كونها فرصة استثمارية واقتصادية، إلى فرصة لتوطيد العلاقات البينية الإفريقية -العربية، وجب تسليط الضوء على واقع التبادل التجاري العربي وفرص الانفتاح على العمق الإفريقي عبر بوابة الجزائر، حيث أوضح الخبير الاقتصادي البروفيسور هواري تيغرسي، أن التبادل التجاري العربي، يمثل أحد أبرز الملفات الاقتصادية التي تشغل الحكومات العربية في ظل التحولات العالمية والمتغيرات الجيو-اقتصادية، فعلى الرغم من وجود اتفاقيات متعددة، أبرزها منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، فإن حجم التجارة البينية لا يزال محدودا مقارنة بالإمكانات الهائلة التي تمتلكها الدول العربية.
وفي ظل هذا الواقع، تبرز فرص جديدة للتكامل والتوسع، خاصة من خلال التوجه نحو الأسواق الإفريقية عبر بوابة الجزائر التي تعد حلقة وصل استراتيجية بين العالم العربي وإفريقيا.

مدّ لوجستي لدعم التبادل التجاري العربي

وأضاف تيغرسي أنه رغم الجهود المبذولة منذ عقود لتفعيل التبادل التجاري العربي، إلا أن نسبة التجارة البينية لا تتجاوز 10 بالمائة من إجمالي التجارة العربية، وهو ما يراه رقما ضعيفا مقارنة بالتكتلات الاقتصادية الكبرى مثل الإتحاد الأوروبي الذي تصل نسبة التبادل الداخلي به إلى أكثر من 60 بالمائة، وأرجع المتحدث هذه المحدودية إلى عدة أسباب، أهمها تشابه الهياكل الاقتصادية للدول العربية التي تعتمد على تصدير المواد الأولية واستيراد المنتجات المصنعة وضعف البنى التحتية اللوجستية، لا سيما النقل البري والبحري والجوي بين الدول، وهو المجال الذي حرصت الجزائر على تطويره خلال السنوات الخمس الأخيرة، لإدراكها أهمية شبكة الطرقات البرية والبحرية لتنشيط الحركية التجارية، حيث عملت على إنجاز الخط البري العابر للصحراء نحو دول الجوار، ومد خطوط السكك الحديدية، خاصة تلك الرابطة بين مناطق النشاط الصناعي، وتطوير موانئها إلى موانئ ذكية بمعايير عالمية لضمان حركية أقوى للمبادلات التجارية التي تتم أغلبها عبر الخطوط البحرية.
وفي شق متصل بالتحديات المتعلقة بالتبادل التجاري الإفريقي- العربي، أشار تيغرسي إلى القيود الجمركية وغير الجمركية التي قد تشكل عائقا رغم الاتفاقيات الإطارية الرامية دوما إلى التكامل الصناعي والزراعي بين الدول الإفريقية والعربية التي أعرب قادتها عن نيتهم في بعث علاقاتها التجارية والاقتصادية البينية، مما يرفع من فرص التبادل في سلاسل القيمة المضافة، ومن خلالها تقريب وجهات الرؤى حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، في ظل وجود رابط اقتصادي متين واهتمامات مشتركة تقلص من هوة الشقاق، حسب تيغرسي.  

جسر تواصل اقتصادي ودبلوماسي

ولأن صلب الحديث متمحور حول المحفل الاقتصادي القاري التي ستحتضنه الجزائر قريبا، شدد تيغرسي على دور المعارض في تعزيز التبادل التجاري العربي، مؤكدا أن المعارض الاقتصادية والتجارية تعد وسيلة فعالة لتوطيد العلاقات الاقتصادية، فهي ليست مجرد فضاءات للعرض، بل منصات للتفاوض وعقد الشراكات، حيث تكمن أبرز أدوارها في التعريف بالمنتجات الوطنية والخدمات الجديدة التي تقدمها كل دولة إفريقية أو عربية. إلى جانب تشجيع الشراكات الاستثمارية بين رجال الأعمال والشركات من خلال إبرام عقود تجارية مباشرة بعيدا عن الوسطاء، ما يقلل من التكاليف.
بالمقابل، يمكن للمعارض الترويج للصناعات المحلية التي قد تواجه صعوبة في النفاذ إلى الأسواق الخارجية، وهي النقطة التي ركزت عليها الجزائر بشكل قوي، إدراكا منها لضرورة الترويج لمنتجاتها المحلية، وتمكينها من اقتحام الأسواق الخارجية، خاصة دول الجوار، وقدم تيغرسي مثالا عن المعارض الدائمة التي أقامتها الجزائر بكل من نواكشط  الموريتانية، ودكار السنغالية، إدراكا منها لضرورة التواصل التجاري البيني، لتجسيد مقاربة التنوع الاقتصادي، التي جعل منها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، ورقة طريق نحو اقتصاد وطني صلب ومتحرر، يعتمد على المنتوج المحلي والمقدرات الوطنية.
من جهة أخرى – يقول تيغرسي - تمثل المعارض فرصة لتقوية الروابط الاقتصادية في ظل التحديات العالمية، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية التي أضرت بسلاسل التوريد بعد جائحة كورونا والتوترات الجيو-استراتيجية التي يعرفها العالم حاليا.

العمق الإفريقي عبر الجزائر

ومن المبادلات البينية إلى مركز احتضانها وتبلورها، وهي الأسواق المنظمة لحركيتها، وفي هذا الصدد يعتبر تيغرسي السوق الإفريقية من أكثر الأسواق الواعدة عالميا بفضل التعداد السكاني الذي يفوق 1.3 مليار نسمة، ونسبة النمو الاقتصادي التي تجعلها وجهة مستقطبة للتجارة والاستثمار، وتمثل الجزائر، بحكم موقعها الجغرافي، بوابة استراتيجية نحو إفريقيا من جنوب صحرائها، وهذا يمنحها مكانة محورية في أي استراتيجية عربية للتوجه نحو إفريقيا، كما تؤهلها لذلك عدة نقاط أهمها الممرات اللوجستية الجديدة، على غرار مشروع الطريق العابر للصحراء الذي يربط الجزائر بنيجيريا مرورا بعدة دول، ما يسهل انسيابية البضائع.
وشدد تيغرسي على ضرورة الاستفادة من منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية التي تسمح بتبادل السلع دون رسوم جمركية بين معظم الدول الإفريقية، وتشجيع الاستثمارات العربية في الجزائر كقاعدة إنتاجية لتصدير المنتجات إلى الأسواق الإفريقية، وهو ما تحقق فعلا من خلال الشراكات الاستراتيجية وكم الاتفاقيات المبرمة بين الجزائر والعديد من الدول العربية، من بينها قطر وسلطنة عمان التي تم إبرام ما يزيد عن 20 اتفاقية تعاون في العديد من المجالات مؤخرا.

أطر تنظيمية عربية موحدة

إن التبادل التجاري الإفريقي-العربي يواجه اليوم تحديات حقيقية يمكن أن تعيق تحقيق الاندماج الاقتصادي المنشود، أردف تيغرسي، خاصة وأن التحولات الإقليمية والدولية تفرض على الدول العربية إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية وتبني استراتيجية هجومية نحو الأسواق الواعدة، وعلى رأسها إفريقيا. وهنا تبرز الجزائر كخيار استراتيجي لتكون البوابة العربية نحو العمق الإفريقي، من خلال استغلال موقعها الجغرافي، وبنيتها التحتية، والفرص الاستثمارية التي توفرها..هي فرص - يرى تيغرسي - ضرورة مرافقتها بإصلاحات معمقة للأطر التنظيمية التي تحكمها مثل تبسيط القيود الجمركية، من خلال قائمة عربية موحدة وجدول زمني لإزالتها ودعم سلاسل القيمة الإقليمية، بالإضافة إلى الاعتراف المتبادل بمواصفات المنتجات توحيد المعايير الفنية والصحية. كما يقترح الخبير الاقتصادي نافذة جمركية عربية موحدة لربط أنظمة التخليص إلكترونيا لضمان التبادل المسبق للبيانات وإنشاء ممرات خضراء للشحنات، وإنشاء اتفاقيات حماية واستثمار وضريبة مزدوجة وتحديثها بنصوص تحكيم فعالة.

من المورد إلى المستورد..

واشترط تيغرسي لنجاح المبادلات التجارية البينية الإفريقية، ممرات تجارية تمثل جسر ترابط لوجستي يربط الدول الإفريقية بشركائها، عبر الممرات البرّية والبحرية والجوية، ودعمها باتفاقات تنظيمية على مستوى الجمارك، ومناطق عبور ومخازن مبردة مشتركة على الحدود ومع الموانئ الرئيسية لتقليل التلف والتكلفة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمنتجات سريعة التلف مثل الأغذية والدواء.
كما شدد تيغرسي على ضرورة ربط الموانئ رقميا عبر منصات تتبع شحنات عربية، تربط الميناء، المورد، الجمارك، والمستورِد، وتوسيع منصات تمويل التجارة من اعتمادات مالية وضمانات بخصوص الحماية من المخاطر التجارية، وتأمين ائتمان تصدير للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
وأشار تيغرسي – في السياق - إلى ضرورة إنشاء صناديق استثمارية مشتركة عربية، كمنصة تجمع صناديق سيادية وبنوك تنمية لتمويل سلاسل قيمة إقليمية في مجالات الغذاء، الأدوية والصناعات الثقيلة، وسوق سندات وصكوك عبر الحدود، لإتاحة تمويلات طويلة الأجل للمشاريع اللوجستية والصناعية المشتركة.

التحول الرقمي..ورقة المستقبل

من المتغيرات التي فرضت نفسها بقوة، التوجه القوي، إن لم نقل الكلي، نحو التجارة الإلكترونية، فقد أفاد تيغرسي أن 90 بالمائة من المبادلات التجارية وعمليات التصدير تتم بطريقة رقمية، وهنا يقترح إنشاء هوية تجارية رقمية موحدة للشركات الإفريقية والعربية لتسهيل فتح الحسابات وتمويل التجارة عبر الحدود، وبوابة مشتريات حكومية عربية، تتيح للشركات العربية الاطلاع والتنافس على المناقصات المطروحة على مستوى دول الجوار بانسيابية. كما شجع المتحدث على تكثيف منصات B2B وخفض رسوم الدفع عبر الحدود، واعتماد بوابات دفع إقليمية وربطها بالأنظمة المصرفية لتمكين الشركات الصغيرة والناشئة، ودعمها بممرات خضراء للمشاريع الصغيرة، مع إجراءات مبسطة لشحن ونقل وبيع منتجاتها بالأسواق الخارجية.
واقترح تيغرسي، من جهة أخرى، إنشاء حاضنات تصدير، يتمثل دورها الرئيسي كمراكز خدمات لضبط شهادات المنشأ، المطابقة، التغليف، التسعيرة، ومراجعة العقود المسوقين. كما دعا إلى الاهتمام أكثر وبشكل خاص بدعم الشركات النسائية والشبابية من خلال حصص مخصصة في المعارض، وهو ما عكفت على تشجيعه السلطات العمومية ببلادنا من خلال تشجيع الاقتصاد العائلي والأسرة المنتجة، ودعمها بتمويلات ومشاركة واسعة على مستوى المعارض الخاصة بالحرف والصناعات المنزلية، وتخصيص جزء من المناولة لصالحها، حيث تقدم المجمعات الكبرى اليوم، على غرار “جيتكس”، قسما مهما من برنامجها الإنتاجي لتجسيده من خلال المرأة الماكثة بالبيت والمؤسسات الناشئة، التي قدم شبابها مشاريع مبتكرة، خاصة فيما تعلق بالمنصات الإلكترونية والتجارة الإلكترونية.
ويتوقع تيغرسي أن تشكل الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية، نقطة تحول في مسار العلاقات الاقتصادية بين الدول الإفريقية والعربية، ما يؤكد نجاح الدبلوماسية الاقتصادية التي حرص رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، على تجسيدها من خلال زيارات الدولة المتبادلة بين كبرى الاقتصاديات العالمية والانضمام للبنوك الاستثمارية مثل بنك التنمية الإفريقية، البنك الإسلامي للتنمية، الأفريكسيم بنك، وبنك البريكس للتنمية، من أجل شراكات دولية استراتيجية في عهد لا مناص فيه من التكتلات الاقتصادية.