مشاريـــع تتجــاوز الخمسين مليــار دولار مــــع نهايــة العقـد
تعيش الجزائر في السنوات الأخيرة ديناميكية متسارعة في قطاع الطاقة، تستند إلى رؤية إستراتيجية مدروسة تجمع بين تطوير الاحتياطات القائمة، والانفتاح على استثمارات دولية ضخمة، وتحديث البنية التحتية، مع السعي للحفاظ على مكانتها كمصدر موثوق للطاقة إقليمياً ودولياً.
يبدو أن الإستراتيجية، التي تمتد إلى أفق 2030، لا تستهدف فقط الأرقام والإيرادات، بل تسعى لإعادة صياغة التوازن بين الداخل والخارج، بين الاستهلاك المحلي والنمو الصناعي، وبين الشراكات التقليدية والانفتاح على قوى اقتصادية جديدة.
ففي خضم التحولات المتسارعة التي يعرفها السوق الدولي، وقّعت الجزائر خلال الأيام والأشهر القليلة الماضية عدداً من الاتفاقيات الطاقوية البارزة، أبرزها الشراكة الجديدة مع شركة “إيني” الإيطالية لاستثمار 1.35 مليار دولار في حقل زمول الكبير، إلى جانب التقدم المحرز مع شركتي “إكسون موبيل” و«شيفرون” الأمريكيتين لتطوير احتياطيات الغاز التقليدي وغير التقليدي. وتشير التقديرات إلى أن قيمة هذه المشاريع قد تتجاوز خمسين مليار دولار بحلول نهاية العقد الجاري.
كما وقّعت الوكالة الوطنية لتثمين موارد المحروقات، اتفاقيتين مع “أوكسيدنتال بتروليوم” الأمريكية لدراسة الإمكانات النفطية في منطقتي العوابد وظهار، في حين مُنحت رخص تنقيب جديدة في ثمانية مواقع مختلفة، ضمن مقاربة توسعية تسعى لرفع مستوى الاكتشافات والاستغلال الطاقوي عبر كامل التراب الوطني.
لكن هذه الحركية الاستثمارية لا تأتي فقط في إطار الحفاظ على الريادة التصديرية، بل هي رد مباشر على التحولات الداخلية المتسارعة في البلاد، وفي مقدمتها ارتفاع الاستهلاك الوطني للطاقة. فقد تجاوز الطلب المحلي على النفط 440 ألف برميل يومياً، كما بلغ استهلاك الغاز الطبيعي نحو 50 مليار متر مكعب سنوياً، مع توقعات بمواصلة الارتفاع خلال السنوات المقبلة.
وفي حين قد يفهم هذا التزايد من زاوية ضاغطة على قدرات البلاد التصديرية، إلا أن القراءة المتأنية تكشف وجهاً آخر أكثر دلالة؛ هذا الارتفاع يعكس نوعاً من الرفاهية الطاقوية التي يتمتع بها المواطن الجزائري، مقارنة بدول الجوار التي تعاني في تأمين حاجياتها الأساسية، كما يدل على تنامي القاعدة الإنتاجية والصناعية الوطنية التي باتت تتطلب موارد طاقوية أكبر.
في هذا السياق، تسعى الجزائر إلى تغطية حاجيات مشاريع إستراتيجية كبرى، مثل منجم غار جبيلات والمنشآت الصناعية التابعة له، ومركب الفوسفات في بلاد الهدبة بولاية تبسة، وهي مشاريع ذات كثافة طاقوية عالية.
كما يندرج هذا التوجه ضمن مخطط واسع لرفع معدل النمو الصناعي خارج قطاع المحروقات، والذي يُقدّر حالياً بأكثر من 4,5% سنوياً. وكلما ارتفع الطلب الداخلي في هذا الاتجاه، كلما أصبح الاستثمار في توسيع القدرة الإنتاجية ضرورة اقتصادية ملحّة.
وتشير المعطيات الحالية إلى أن الجزائر تتجه بخطى واثقة نحو تحقيق هدف طموح يتمثل في بلوغ إنتاج 200 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً بحلول عام 2030، مع تصدير ما يزيد عن 120 مليار متر مكعب، وهو ما سيعزز موقعها بين أكبر خمسة مصدرين للغاز في العالم. وتدعم هذه الرؤية شبكة أنابيب حديثة قيد التوسعة، وموانئ تصديرية مطوّرة، وشراكات متجددة مع الأسواق الأوروبية والآسيوية على السواء.
علاوة على ذلك، يُسجَّل حرص الجزائر على تنويع الشركاء في مجال الطاقة، حيث لا تقتصر الاتفاقيات على الشركات الغربية، بل تشمل أيضاً مؤسسات صينية ذات حضور متنامٍ في مشاريع البنية التحتية والتنقيب، بما يعكس سياسة خارجية متوازنة تسعى إلى تنويع مصادر التمويل والتكنولوجيا دون الارتهان لأي طرف. كما يعكس هذا التوجه فهماً واضحاً لمتغيرات الجغرافيا السياسية، حيث أصبح أمن الطاقة مسألة استراتيجية تتطلب مرونة في التفاوض وتعددًا في الخيارات.
في نفس السياق، يُفهم من هذا الحراك أن الجزائر لا تراهن فقط على الثروة الموجودة تحت الأرض، بل أيضاً على إدارة ذكية لها، تجعل من الطاقة وسيلة لإطلاق طاقات المجتمع، وليس فقط لتمويل الخزينة. فالمعادلة الطاقوية الناجحة لا تُقاس بكمية ما يُصدَّر فقط، بل أيضاً بمدى استجابة الدولة للحاجيات الداخلية، ومدى قدرتها على توجيه هذا المورد نحو دعم القطاعات المنتجة وخلق القيمة المضافة محلياً.
وتدرك الجزائر جيداً أن المعركة الطاقوية لا تُربح فقط في الأسواق، بل تبدأ من الداخل. من تأمين الاستهلاك الوطني بكفاءة، إلى بناء قاعدة صناعية صلبة، مروراً بتحقيق استقرار اجتماعي يستند إلى وفرة الموارد وتوظيفها العادل.
وفي ظل عالم يتجه نحو التحولات الطاقوية الكبرى، يبدو أن البلاد تراهن على فترة انتقالية ذكية، تستثمر فيها في الغاز التقليدي وغير التقليدي، دون أن تُغفل إمكانات الطاقات المتجددة التي بدأت تلج السوق الوطنية بتدرج محسوب.
في المحصلة، لا يمكن فصل الإستراتيجية الجزائرية للطاقة عن مسار التنمية الوطنية، ولا عن رغبتها في تأمين استقلال القرار الطاقوي، وربطه بنمو اقتصادي حقيقي. فحين تواكب الحركية الاستثمارية هذا التنامي في الطلب المحلي، وحين يُوظَّف هذا الطلب كفرصة لا كمشكلة، نكون أمام مقاربة واقعية تضع الجزائر في موقع الفاعل، لا المتفرج، ضمن مشهد طاقوي دولي شديد التنافسية.