طباعة هذه الصفحة

أستاذ الاقتصـاد الدولي.. نصـر الدين سـاري لـ«الشّعب»:

الإنتاج المحلي.. ضمان الوفرة وحماية القدرة الشرائية

خالدة. ب

مقاربــة جديــدة أكــثر نجاعـة في تسيــير قطاعـي الفلاحـة والتجـارة

 تتّجه الجزائر في المرحلة الراهنة، خاصة بعد التعديل الحكومي الأخير، نحو صياغة مقاربة اقتصادية أكثر واقعية ونجاعة في تسيير قطاعي الفلاحة والتجارة، ترتكز على جعل وفرة المنتجات الأساسية واستقرار أسعارها أولوية استراتيجية قصوى. هذه الرؤية الجديدة تقوم على ركيزتين أساسيّتين: رفع الإنتاج الوطني وتقليص التبعية للأسواق الخارجية، بما يضمن تزويد السوق الوطنية بمنتجات محلية متنوعة، وبجودة مقبولة وأسعار في متناول المواطن.

 يؤكّد أستاذ الاقتصاد الدولي، نصر الدين ساري، في تصريح لـ«الشّعب»، أنّ الجزائر تستورد سنويا ما يفوق 10 مليارات دولار من المواد الغذائية، أغلبها من الحبوب والزيوت النباتية والحليب المجفّف ومشتقاته. في المقابل، تجاوز الإنتاج الفلاحي الوطني 37 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 18 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، ما يجعل من الفلاحة ثاني أكبر قطاع اقتصادي بعد المحروقات.
وأوضح الخبير أنّ الاستراتيجية الوطنية الجديدة تهدف إلى رفع نسبة تغطية الإنتاج المحلي للاستهلاك الداخلي، من 70 بالمائة حاليا إلى أكثر من 85 بالمائة في أفق 2030، خصوصا في المواد واسعة الاستهلاك، وهو هدف لا يمكن تحقيقه إلا عبر تشجيع الفلاحين والمنتجين على زيادة قدراتهم الإنتاجية، وتوفير الدعم التقني والمالي اللازم لهم.
مشاريع إستراتيجية وتقليص فاتورة الاستيراد
 في إطار هذه المقاربة، يجري العمل على توسيع قاعدة الإنتاج المحلي في الفلاحة والصناعات الغذائية، إذ يعدّ مركّب سحق البذور الزيتية بجيجل، الذي تمّ تدشينه مؤخّرا، نموذجا لهذا التوجّه. فالمركب سيساهم في تغطية أكثر من 20 بالمائة من حاجيات السوق الوطنية من الزيت الخام، وتلبية ما يفوق 80 بالمائة من احتياجات الأعلاف. هذه المشاريع الإستراتيجية قلّصت فاتورة الاستيراد بأكثر من 15 بالمائة، خلال سنة 2024 مقارنة بالسنوات السابقة.
ولا تقتصر أهمية هذه المشاريع على تقليص الواردات فحسب، بل تمتد لتشمل خلق فرص عمل جديدة لفئة الشباب وتعزيز القيمة المضافة للمنتجات الوطنية، ما يمنح الاقتصاد المحلي قدرة أكبر على المنافسة. كما أنّ توسيع مثل هذه المركبات الصناعية يفتح الباب أمام شراكات مع المستثمرين الأجانب، ويساهم في نقل الخبرات والتكنولوجيا الحديثة إلى السوق الجزائرية.

آليات ضبط السوق وحماية القدرة الشرائية

 في موازاة ذلك، تعمل وزارة التجارة الداخلية على تنفيذ سياسات استباقية لحماية القدرة الشرائية، من خلال آليات لضبط السوق والتحكّم في الأسعار. وقد ساهمت زيادة الإنتاج وتوسيع قدرات التخزين المبرد في تسجيل استقرار نسبي في أسعار الخضر والفواكه خلال موسم 2024-2025، كما ضمنت برامج التموين وفرة مادة البطاطا بأسعار تراوحت بين 45 و65 دينارا للكيلوغرام، بعد أن تجاوزت سابقا 100 دينار.
وأشار ساري إلى أنّ التنسيق الوثيق بين قطاعي الفلاحة والتجارة، يهدف إلى ضمان انسيابية السلع من الحقول إلى أسواق الجملة والتجزئة بأقل تكلفة ممكنة، ممّا يقلّص الفجوة بين أسعار الإنتاج وأسعار البيع للمستهلك، ويعزّز في الوقت ذاته مردودية الفلاحين والتجار. هذا التنسيق من شأنه أن يعزّز ثقة المواطن في وفرة المنتجات واستقرار الأسعار.

الرّقمنـة ومراقبــة السوق

 لضمان تسيير أكثر فعالية للسوق، تسعى السلطات إلى اعتماد الرّقمنة كأداة محورية، حيث يجري تطوير نظام معلوماتي موحّد لتتبّع الأسعار والكميات في مختلف الأسواق، ما يسمح بإدارة شفافة وقدرة أكبر على التنبؤ بالتذبذبات والتدخّل في الوقت المناسب، كما أنّ جهاز الرقابة التابع لوزارة التجارة، الذي أنجز خلال عام 2024 أكثر من 250 ألف عملية تفتيش، لعب دورا أساسيا في مكافحة الغشّ والممارسات الاحتكارية، التي تضرّ بالسوق والمستهلك على حدّ سواء.

دعم الفلاحين ركيزة أساسية

 شدّد الخبير على أنّ نجاح هذه المقاربة يعتمد بالدرجة الأولى على دعم الفلاحين، باعتبارهم الحلقة الأولى في سلسلة الإنتاج الغذائي، من خلال الدعم المباشر للأسمدة والبذور والكهرباء الفلاحية، إلى جانب تحسين ظروف التخزين والتسويق ومنح تحفيزات جبائية تشجّعهم على الاستثمار في زيادة الإنتاج. كما أنّ تعزيز الثقة بين المنتجين والسلطات والمستهلكين يعد عاملا حاسما في إنجاح هذه السياسات.

نحو اقتصاد متنوّع وأكثر صلابة

 يعتبر دعم الإنتاج المحلي خطوة محورية في حماية السوق الوطنية من التقلّبات الخارجية، إذ يضمن وفرة السلع في مختلف الفصول ويقلّل الحاجة إلى الاستيراد المكلّف. وعندما يتم التحكّم في وفرة المنتجات وتنظيم السوق بآليات فعّالة، يصبح بالإمكان التحكّم في الأسعار بشكل أفضل، ما ينعكس إيجابا على القدرة الشرائية للمواطن ويمنحه استقرارا في حياته اليومية.
ولا تقتصر هذه السياسات على البعد الاجتماعي فقط، بل تمثل أيضا ركائز أساسية لمسار التنويع الاقتصادي، الذي تنتهجه الجزائر. فالرّهان اليوم هو تقليل الاعتماد على عائدات المحروقات، التي تتأثر بتقلّبات الأسواق العالمية، عبر تطوير قطاعات واعدة مثل الفلاحة والصناعات التحويلية الغذائية، بما يضمن اقتصادا أكثر توازنا وصلابة في مواجهة الأزمات.

رؤية جديدة لاقتصاد الغد

 في المحصلة، تعكس هذه السياسات الجديدة توجّها واضحا لدى الدولة الجزائرية، نحو بناء نموذج اقتصادي قائم على الإنتاج المحلي وتنظيم السوق بشكل أكثر فعّالية. فوفرة السلع الأساسية واستقرار الأسعار لم تعد مجرّد أهداف ظرفية، بل تحوّلت إلى ركيزة أساسية لحماية القدرة الشرائية وتعزيز الأمن الغذائي. كما أنّ هذه المقاربة تمثل خطوة حاسمة نحو تنويع الاقتصاد الوطني وتقليل التبعية للمحروقات والأسواق الخارجية، بما يعزّز مناعة الاقتصاد ويضع المواطن في صميم الأولويات التنموية.