طباعة هذه الصفحة

إعادة هيكلة المنظومة التجارية بما يخدم أولويات التنمية الوطنية

إجراءات تنظيم الواردات.. تعزيز السّيـادة الاقتصاديـة

فضيلة بودريش

خطوة نحو الاستقلالية الإنتاجية وإعادة الاعتبار للكفاءات الوطنية

 في سياق التحولات الاقتصادية العميقة التي تشهدها الجزائر خلال السنوات الأخيرة، تواصل الحكومة بقيادة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، تنفيذ إستراتيجيتها الرامية إلى تحقيق السّيادة الاقتصادية وتقليص التبعية لمصادر الدخل التقليدية، من خلال إعادة هيكلة المنظومة التجارية وتنظيم حركة الواردات والصادرات، بما يخدم أولويات التنمية الوطنية.

 تعكف وزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات، على تقييم ومراجعة مختلف الإجراءات المتخذة في مجال تنظيم التجارة الخارجية، خاصة ما يتعلّق بعمليات الاستيراد، مستندة إلى البرنامج التقديري للسداسي الثاني من السنة الجارية، الذي يعد أداة محورية لضبط السوق الوطنية وضمان التموين المنتظم بالسلع والخدمات الضرورية.
وتندرج هذه الجهود في سياق تنفيذ تعليمات رئيس الجمهورية، الذي أكّد في أكثر من مناسبة أنّ بناء جزائر قوية ومتطورة يمرّ حتماً، عبر ترسيخ منظومة اقتصادية متينة قائمة على الإنتاج المحلي وتشجيع الصادرات خارج قطاع المحروقات، وهو ما يفسّر الاهتمام الكبير الذي أولته السلطات لإنشاء «الهيئة الجزائرية للاستيراد» و»الهيئة الجزائرية للتصدير»، كأداتين تنظيميّتين لضبط التجارة الخارجية وتعزيز أدائها.

ضبط الاستيراد.. مسار نحو الشفافية وحماية السوق

 يُعدّ تنظيم الاستيراد أحد المفاتيح الأساسية لإعادة التوازن إلى الاقتصاد الوطني. فبعد عقود من الانفتاح العشوائي الذي أدى إلى إغراق السوق الوطنية بالمنتجات الأجنبية على حساب الإنتاج المحلي، تسعى الجزائر اليوم إلى فرض قواعد جديدة تقوم على الشفافية والرقابة الدقيقة. ومن بين أبرز هذه القواعد إلزام المتعاملين الاقتصاديّين، سواء كانوا أفراداً أو مؤسّسات، بإيداع برنامج تقديري مفصّل لاحتياجاتهم من السلع والخدمات المستوردة قبل الشروع في إجراءات التوطين البنكي أو فتح الاعتمادات المستندية.
ولا يقتصر الهدف من هذا الإجراء على الجوانب التنظيمية فقط، بل يتعدّاها إلى حماية الاقتصاد الوطني من الهدر في العملة الصعبة، وتوجيه الاستيراد نحو الاحتياجات الفعلية التي تدعم الأنشطة الإنتاجية وتلبّي احتياجات المواطنين. كما يساهم في حماية المنتوج الوطني من المنافسة غير العادلة، التي كثيراً ما شكّلت عائقاً أمام نمو الصناعة المحلية.
وتسيّر هذه الإصلاحات في سياق أوسع يهدف إلى إرساء منظومة تجارية فعّالة، تتكامل فيها الأدوار بين مختلف القطاعات الوزارية. فالمستورد ملزم بالحصول على الموافقة المبدئية من الوزارة الوصية على نشاطه (الصناعة، الفلاحة، الطاقة...) قبل أن تُحال الملفات إلى وزارة التجارة للمصادقة النهائية. كما شملت الإجراءات الجديدة تنظيم ما يسمى بـ»الاستيراد المصغّر» لفائدة المقاولين الذاتيّين، عبر تحديد سقوف مالية وكمية دقيقة لمنع تحول هذا النشاط إلى بديل للتجارة التقليدية، مع فرض قيود على بعض السلع الحساسة مثل المنتجات الصيدلانية التي تتطلّب تراخيص فنية خاصة.

بناء منظومة تجارية شفافة ومستدامة

 تشكّل هذه الإجراءات خطوة نوعية نحو بناء اقتصاد وطني قوي ومستقلّ. فهي من جهة تعزّز الرّقابة والشفافية في المنظومة التجارية، ومن جهة أخرى تضع أسساً لنمو مستدام قائم على الإنتاج المحلي والصادرات. وتشير التقديرات إلى أنّ هذه السياسة يمكن أن تُسهم في تحقيق معدل نمو اقتصادي لا يقل عن 4.5 بالمائة خلال عام 2025، مدفوعة بزيادة الإنتاج المحلي وتقليص فاتورة الاستيراد وتعزيز الصادرات خارج قطاع المحروقات.
وفي السياق ذاته، ساهم قانون المالية لسنة 2025 في وضع حدّ لممارسات سماسرة الاستيراد، خصوصاً في قطاع السيارات، من خلال فرض ضوابط دقيقة تهدف إلى حماية السوق الوطنية وتشجيع الصناعة المحلية. هذه الإجراءات تعكس إرادة سياسية واضحة في الانتقال من اقتصاد ريعي يعتمد على العائدات النفطية إلى اقتصاد إنتاجي متنوع ومستقلّ.

ترشيد الإنفاق وتحسين التدفّقات النقدية

 أحد أهم المكاسب المتوقّعة من تطبيق البرنامج التقديري للاستيراد، يتمثّل في ترشيد النفقات بالعملة الصّعبة وتحسين التدفّقات النقدية. فمن خلال تحديد الاحتياجات بدقة مسبقاً، تستطيع الدولة توجيه سياساتها المالية والنقدية بفعالية أكبر، وتقليل الإنفاق على السلع غير الضرورية أو المستوردة بكميات تفوق حاجة السوق.
إلى جانب ذلك، يساهم التحكّم في الاستيراد في تقليص الضغط على احتياطي النقد الأجنبي، ما يتيح للدولة توجيه الموارد المالية نحو الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والبنية التحتية. كما يشكّل خطوة أساسية نحو تعزيز الاستقلالية الإنتاجية، إذ يدفع المستهلكين إلى تفضيل المنتجات المحلية ويحفّز المؤسّسات الوطنية على تحسين جودة منتجاتها وتطوير قدراتها التنافسية.

الرّقمنة ودعم المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة

 لتحقيق أقصى استفادة من هذه السياسة، من الضروري تسريع وتيرة الرّقمنة وربط قواعد البيانات بين مختلف المؤسّسات المعنية، مثل وزارة التجارة والجمارك والبنوك، بما يسهّل عملية التوطين البنكي ويُبسّط الإجراءات الإدارية. كما ينبغي توفير الدعم القانوني والإداري للمؤسّسات الصغيرة والمتوسّّطة لمساعدتها على التكيّف مع المتطلّبات الجديدة، خاصة في ما يتعلّق بإعداد البرامج التقديرية والالتزام بالإجراءات التنظيمية.
وفي السياق ذاته، يبقى تشجيع الإنتاج المحلي ركيزة أساسية لنجاح هذه السياسة. ويتطلب ذلك تبني نظام دعم متكامل يشمل التحفيزات الجبائية وحماية المنتجات الوطنية وتسهيل الشراكات مع المستثمرين الأجانب، لنقل التكنولوجيا وتطوير سلاسل القيمة الصناعية. كما ينبغي التركيز على تقليص الواردات من السلع الاستهلاكية التي يمكن تصنيعها محلياً، وهو ما يفتح المجال أمام خلق مناصب شغل جديدة وتوسيع القاعدة الصناعية للبلاد.

من التحكّم في الواردات إلى تعزيز الصادرات

 إنّ الهدف النهائي من هذه الإجراءات لا يقتصر على تقليص الواردات فحسب، بل يتعداه إلى بناء منظومة تجارية متوازنة يكون فيها الإنتاج المحلي أساساً للتنمية والصادرات محرّكاً رئيسياً للنمو. وفي هذا الإطار، تعمل الجزائر على إنشاء «الهيئة الجزائرية للتصدير» لتطوير استراتيجيات فعّالة لاختراق الأسواق الإقليمية والدولية، مع التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية.
وتسعى الحكومة كذلك إلى تنويع قاعدة الصادرات عبر دعم قطاعات الفلاحة والصناعة التحويلية والتكنولوجيا، بما يسمح بتقليص الاعتماد على صادرات المحروقات، التي شكّلت لعقود طويلة المصدر الرّئيسي لعائدات البلاد من العملة الصعبة. كما تشجّع السياسات الجديدة على إقامة شراكات إستراتيجية مع الأسواق الإفريقية والعربية والآسيوية، في إطار اتفاقيات تجارية تعزّز التواجد الجزائري في سلاسل القيمة العالمية.

نحو اقتصاد أكثر قوة واستدامة

 إنّ البرنامج التقديري للنصف الثاني من عام 2025، لا يمثل مجرّد إجراء إداري لتنظيم الواردات، بل هو خطوة إستراتيجية نحو بناء اقتصاد أكثر قوة واستدامة. فهو يعكس وعياً متزايداً بأهمية الانتقال من نموذج اقتصادي يعتمد على الاستيراد والاستهلاك إلى نموذج قائم على الإنتاج والتصدير، ويضع الجزائر على مسار جديد نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز مكانتها في الاقتصاد العالمي.
ويمكن القول إنّ تنظيم الواردات ليس مجرّد إجراء تقني، بل هو خيار إستراتيجي يضع الاقتصاد الوطني على طريق النمو المستدام، فمن خلال تعزيز الرّقابة والشفافية وتوجيه الاستيراد نحو الضروريات، تدعم الجزائر الإنتاج المحلي وتفتح آفاقاً واسعة أمام الصادرات، لتتحول من بلد مستورد إلى قوة إنتاجية وتصديرية صاعدة في المنطقة والعالم.