طباعة هذه الصفحة

الدكتورة بوقميجة نجيبة تشخّص الخلفيات القانونية للتصدي للفساد

المادة 6 من ق. الإجراءات الجزائية تثير جدلا بين تجريم التسيير ورفعه عن الفساد

أجرى الحوار: سعيد بن عياد

يستعرض هذا الحوار، الذي أجرته «الشعب» مع الدكتورة في القانون (جامعة الجزائر1) بوقميجة نجيبة، أبرز الاختلالات التي تسجل على مستوى المنظومة القانونية المعنية بمعالجة ظاهرة الفساد بشتى أشكاله، لرصد مدى دورها في عرقلة مساعي مكافحته، كما تشرح عوامل اتساع نطاق هذا الإخطبوط الذي ينخر الاقتصاد ويستنزف موارد البلاد، ويتضاعف شرّه على الأمة في ظلّ الأزمات. كما توضح مسؤولية القضاء في التعامل مع جرائم الفساد مسجلة جوانب الضعف وانجاز المهمة التي يرتبط تجسيدها بإحاطة المسار القانوني بتكريس مسعى أخلقة الحياة العامة، وهو أمر يتطلّب انخراط كل المجتمع فيه، في وقت لا يمكن تجاهل وجود فئة ولو قليلة من متعاملين ومستثمرين يتمتعون بحدّ أدنى من النزاهة والابتعاد عن الفساد، ليخلص الحوار إلى تسليط الضوء على دور المنظومة المصرفية في كل المشهد الراهن وتطوراته التي يجب أن تنطلق أولى خطواتها بالعمل على استرجاع القروض ومن المتخلفين عن التسديد أو بالأحرى ممن نهبوا المال العام بطرق ملتوية.

«الشعب» ما هي الاختلالات التي توجد في المنظومة القانونية، والتي تعرقل مسار مكافحة الفساد وتقلل من فعاليتها؟
 د.بوقميجة: وضع المشرع الجزائري  سنة 2015 في تعديله لقانون الاجراءات الجزائية المادة 06 مكرر تعديلا أثار الكثير من الجدل بخصوص من يقول بكونها رفعت التجريم عن التسيير، ومنهم من يرى بأنها رفعت التجريم عن الفساد. وبين الرأيين تبقى القراءة المتأنية للنص الإجرائي الذي يعطي كثيرا من القيود على تحريك الدعوى العمومية ويرفع يد النيابة تماما عن أي متابعات تلقائية، ويمنح كل سلطة المتابعة للهيئات الاجتماعية التابعة للمؤسسات المعنية بنص المادة 06 مكرّر. فهاته المادة صارت عائقا حقيقيا تستوجب إعادة النظر فيها من طرف المشرع لفتح باب حقّ المتابعة، وحقّ التبليغ عن الفساد أمام كل من وصلت إلى علمه جرائم تمس المال العام أو تهدّد الاقتصاد الوطني وتستنزفه.
وذلك لأن نصّ هذه المادة المتعلق بالتسيير الذي يؤدي إلى السرقة، الاختلاس، التلف أو ضياع أموال لم يحدّد المرحلة التي يجرم بخصوصها التسيير، أي خلال عمل التسيير أم بعد التسيير. وباعتبار أن النص جزائي فإن الأصل فيه التضييق. وبالتالي يستفيد الشخص المفسد من الغموض الذي يكتنف النّص.
ودائما في إطار الاختلالات والعرقلة نجد أن التحديات التشريعية مازالت مطروحة بقوة، سواء من  ناحية ضبط النصوص بآليات وميكانيزمات منتجة وضمان حقيقي لحماية المبلغين عن الفساد التي مازالت تلقى كثيرا من الانتقاد من ناحية التضييق على هؤلاء المبلغين ومتابعتهم بدلا من حمايتهم وتشجيهم.
وهنا نحن أمام نصوص وواقع، حيث أنه وبالرغم من أن القانون 06-01 لم يحم كفاية المبلغ عن الفساد، إلا أنه من بعد تعديل هذا النص، لمسنا جليا الحماية القانونية للمبلغين من خلال الضمانات الممنوحة. ولكن بالرغم من ذلك، إلا أن الواقع فرض ظاهرة تخوف المبلغين، وأحيانا انتقلنا من النقيض إلى النقيض، وتواجدنا أمام التبليغات العشوائية وغير القائمة على أي أساس قانوني، أو مستند على أدلة وإثباتات.
وبخصوص التكتّم أصبحنا نعيش نقيض المنطق، من جهة تفشي الفساد وتفاقمه وعلانيته، ومن جهة مقابلة تكتم المبلغين خوفا، وبالتالي عدم التوازن بين الظاهرة والحد منها، وهنا أصبح «الفعل لا يقابله أي رد فعل».
 لماذا يتسّع نطاق جرائم الفساد، هل هي مسألة ضعف الآليات المكلفة بالتصدي لها ومعالجتها أم هشاشة واختلالات في القوانين ذات الصلة؟
 اتساع النطاق راجع إلى العاملين معا، ضعف الآليات وهشاشة النصوص.
فبخصوص ضعف الآليات، وبالرجوع إلى الصلاحيات التي تتمتع بها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، نجد المهمة المتمثلة في معالجة ملفات التصريح بالممتلكات.
غير أننا نرى بأنها مهمة تتسم بالصعوبة، وذلك بالرغم من أنها تتمّ في إطار إلكتروني. إلا أن تصريح الموظف السامي بالممتلكات، لا يعكس دائما، التصريح عن حقائق، كون هؤلاء الأشخاص غالبا ما تتفادون في التصريح جانب الملكية، عن طريق تحويل الممتلكات لأحد أفراد العائلة، مثل: الوالدين والزوجة، وذلك تهربا من الثراء غير المبرر. ونشير هنا إلى أن هيئة مكافحة الفساد، وعلى خلاف القضاء، لا يمكن لصلاحياتها أن تمتد إلى غاية التحقيق بخصوص مآل هذه الممتلكات.
وبخصوص هشاشة النصوص، فعند مراجعة التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد منذ الاستقلال، نلاحظ أن هناك تراجع واضح في نوعية العقوبات، من حيث الجانب الردعي بالأخص، ذلك أنه بعد أن كانت صارمة جدا بخصوص الاختلاس، ونهب المال العام، والمساس بالاقتصاد الوطني، بعقوبات تصل إلى السجن المؤبد، وتصنف في خانة جنايات المساس بالأموال، أصبح كثيرا من قضايا الفساد عبارة عن جنح، تصدر بشأنها عقوبات مخفّفة، لا سيما وأن المادة 29 من القانون رقم 06-01 المتعلّق بمكافحة الفساد والوقاية منه، المعدل والمتمم بالقانون 11-15، سقفت العقوبة بسقف متدني جدا يصل في أقصاه إلى عشر سنوات حبس، بدون أي اعتبار لحجم المبالغ المالية المختلس.
لذلك، فعلا مسألة ردعية العقوبة كانت عاملا مباشرا للتشجيع عن الفساد، وأحيانا إلغاء الجانب الردعي الذي عادة ما يكون الهدف المنشود من النصوص وتطبيقها، فالآلية الاجرائية المتعلقة بالمتابعة المقيدة بشروط وهشاشة القوانين كانت عاملا مسهلا، بل ومشجعا على ارتفاع حجم قضايا الفساد التي وصلت إلى أرقام خيالية سواء من حيث عدد القضايا أو حتى المبالغ المختلسة.
وعلى سبيل المثال، إن إجراء «الترصد الالكتروني»، غير المعمول به في الجزائر، على خلاف التشريعات التي أثبتت نيتها في جدية المتابعة، والذي يتمثل في الاعتماد على جهاز الإرسال، يقوم برصد حركات الشخص المعني، وهو الإجراء الذي يجعل الموظف العمومي في منصب سام محل مساءلة في حالة الممارسات والتلاعبات، حتى في إطار ممارسته لحياته الخاصة، لأنه يمكن أن يستفيد من الحياة الخاصة بغرض ارتكاب جرائم تندرج تحت إطار ممارسة الوظيفة، ومن ثمّة باعتباره يؤدي خدمة عمومية، يجعله محل مساءلة.
ما هي مسؤولية القضاء في إنجاز أهداف خيار مكافحة الفساد، أقصد بالأخص الجرائم المصنفة في خانة النهب وتهريب المال العام؟
 مسؤولية القاضي هي مسؤولية مرتبطة بإنفاذ القوانين، التي يحتكم إليها، باعتبار أن دوره ينحصر في تطبيق النصوص. والرجوع إلى روح القانون والسلطة التقديرية الممنوحة له في عدم التقيّد بصرامة النص في القضايا التي تكون محل فساد ونهب لمبلغ ضئيل، وعدم التساهل والليونة والتخفيف في حالة نهب لمبالغ خيالية، خاصة وأن نص المادة 29 من القانون11 - 15 حددت العقوبة لـ 10 سنوات ولم تحدّد المبلغ المختلس، كما كان معمول به في نص المادة 19، التي كانت مرجعيتها القيمة المختلسة كمرجعية أساسية لتحديد سقف العقوبة.
عليه فإن التفرقة والتمييز بين كبار ناهبي المال العام ومهربيه وغيرهم من «المبتدئين» غير المسبوقين، واللذين قد تكون ظروف ما دفعتهم لنهب مبالغ بسيطة لا يمكن أن يوضعوا في خانة واحدة.
مع الإشارة إلى أنه لا يمكن نفي التجريم بخصوص الفئة الثانية، ولكن نوضّح فقط بأن الفساد لا يمارسه الشخص بعزلة عن آخرين، حيث أنه عبارة عن حلقات مترابطة، تبدأ من «الحلقة الضعيفة إلى غاية أقوى حلقة». وفي كثير من القضايا نلاحظ أن المتابعة بدأت بالأشخاص الذين يتلقون الأوامر بممارسة الفساد، في حين يفترض أن يحدث العكس، حيث أن المتابعة لا يجب أن تنحصر في متلقي الأوامر فقط، بل يجب أن تمتد إلى المسؤول الذي يصدر القرارات، لأن الموظف الموجود في آخر الحلقة غير مؤثر، بل هو متأثر.
أضف إلى ذلك أن مهمة القاضي تبرز من خلال السلطة التقديرية التي منحها له المشرع بعد أن يحيط بكل الملابسات والظروف التي أدت إلى ارتكاب الجريمة وأسبابها، مستندا للقانون وروح القانون وضميره والمصلحة الفضلى للمجتمع.
 هل يمكن الرهان على أخلقة الحياة العامة لبعث ثقافة حماية المال العام؟
 نتفق بأن أخلقة الحياة العامة، يمكنها المساهمة في بعث ثقافة حماية المال العام، إلا أن الرهان حاليا على الأخلقة  لوحدها غير كاف. يجب تدعيم أخلقة الحياة العامة بالمبادئ المجتمعية، أساسها النزاهة، خصوصا وأننا نعيش ظاهرة استبعاد الكفاءات والنخب، والذي ولد الفراغ. وهو ما سهّل تفشي ظاهرة الفساد، إلى درجة الإضرار الفادح بالاقتصاد الوطني.
إضافة لذلك هناك أيضا إلزامية زرع ثقافة «المعلومة حق». لأن الإطار الذي تقدّم فيه المعلومات في الحالة المتعلقة بالاستغلال، تشوبه الكثير من العيوب، خصوصا وأن أصل المعلومة هو توجيهها للمتعامل باعتباره صاحب حقّ عليها، وليست ملك للمسؤول، يصل إلى غاية التلاعب بها، وغالبا في إطار الفساد، ظنا وقناعة من هذا المسؤول أنه متمتع بحق تسيير المال الخاص، والذي يجرّ معه ملكية المعلومات أيضا، مستبعدا الالتزام المتمثل في تسيير المال العام، وأن المهمة الرئيسية هي التسيير الأمثل وليس احتكار المعلومات في إطار الخدمة، وبالتالي التعامل بها بصفة مشبوهة.
ومن هنا يجب الانتقال وعلى وجه الاستعجال إلى تعميم عصرنة الإدارة، عن طريق الرقمنة، وفي إطار الإدارة الإلكترونية، حتى نوفر للمتعامل وللمواطن كل المعلومات في إطار الشفافية.
بلا شكّ هناك بالمقابل مستثمرون نزهاء إلى حدّ ما على الأقل وإن كانوا قلة؟
 يمكن أن نجد للنزاهة مكانة في الاستثمار، إلا أن الاستثمار يمارس في إطار مناخ معين، وهنا لا يمكن الاكتفاء بنزاهة المستثمر، بل يجب على مناخ الاستثمار أن يكون نظيفا وملائما، وذلك حتى يتمكّن المستثمر من الدخول لسوق المنافسة دون أدنى تخوف من أن يكون ضحية ممارسات منافية للمنافسة، مثل: التعسف في وضعية الهيمنة والاحتكار.
وبالتالي إن استكمال عملية الاستثمار، تكون بنزاهة المستثمر وأيضا تأمين المناخ الملائم، وحتى في حالة عدم ملائمته يجب التوجه نحو تسحين بيئة الأعمال، عن طريق تذليل العراقيل الإدارية، وجعلها أكثر جاذبية واستقطاب.
ويضاف إليها الاستقرار السياسي والأمني. والأمن هنا يؤخذ بمفهومه الواسع، حتى بخصوص القاعدة القانونية، وهو ما يعرف بـ»الأمن القانوني»، والذي يجب أن يكون مرتكزا على مبدأ التنبؤ، أي وضع القاعدة حتى قبل نشوء النزاع، وتفاديا لتعطلّ الحلّ الخاص بهذا الأخير، أو يساء تكييفه في حالة فراغ قانوني.
وبالتالي يجب اصطحاب النزاهة بالعوامل السابقة، وتفعيل الإصلاحات، دائما في إطار تحقيق التوازن الاقتصادي والمالي.
 في نفس الاتجاه ألا يعتقد أن آليات عمل البنوك في تسيير القروض أصبحت محل شبهة، برأيك كيف يمكن إصلاح الأمر؟
 الأصل يفترض في البنك، ومن خلال القروض، أن يساهم في إنعاش الاقتصاد الوطني، سواء تعلّق الأمر بالقروض في مجال الاستثمار، أو القروض في مجال الاستغلال، إلا أننا تواجدنا أمام الحالة المعاكسة تماما، وهي الإضرار بالاقتصاد، جراء بعض القروض المشوهة. ويجب على البنوك في هذه الحالة استرجاع ما فات من منح لتمويلات موجهة لمشاريع، ولو في حدود الإمكان، وذلك حتى عن طريق اللجوء إلى القضاء، وأيضا التحسب للقروض المستقبلية، من خلال منح قروض بعد التحقق من الضمان، ووفق ملفات مدروسة، بعيدا عن المحاباة.
ويكون ذلك بضرورة اعتماد البنوك على نماذج حديثة في تقديرها للمخاطر، عوض الطرق الكلاسيكية، من أجل استغلال أحسن للمعلومات من جهة،
وربح الوقت من جهة أخرى. وتفاديا للفساد في هذا القطاع، عصب الاقتصاد، نكون أمام ضرورة المراقبة الدائمة لمسؤولي المؤسسات المصرفية لموظفيها والعمل على تطوير الجهاز المصرفي وتحسين الخدمات المقدمة من البنوك، وذلك بما يخدم المستثمرين.
كما أن الخلفية وراء هذه القروض، تمثلت أساسا في عدم التسديد، نظرا لانعدام السيولة. وحتى في حالة صدور أحكام وقرارات قضائية متعلقة، في جانب منها، بحجز الممتلكات من أجل جبر الضرر وتغطية الدين، إلا أن الواقع أثبت في كثير من الأحوال أنه لا توجد أي ممتلكات أو أموال يحجز عليها، بالرغم من أن منح هذه القروض منذ البداية، يفترض بخصوصها التحليل المالي، لأنه من أهم الوثائق التي تمكن من التأكد من ميزانية المؤسسة.