طباعة هذه الصفحة

بعجـــي نور الدين أستـــاذ القانون يسلّط الضـوء على مكافحة الفساد

لا تعارض بين الشروع في مكافحة الفساد وبنـــــاء التحوّل السيـاسي وفقـــا للقـانون

أجرى الحوار: سعيد بن عياد

  تحرّك القضاء أظهر احترافية وأخرج ملفات ثقيلة كانت في حكم المتستر عليها
 القاضي المتحرّر وغير الكفء لا يمكنه التصدي لملفات فساد شائكة ومتداخلة

الخبراء يجب أن يكون لديهم النزاهة والإخلاص حتى يكون القاضي صائبا لا يوجد تعارض بين انجاز مسار مكافحة الفساد وبناء التحوّل السياسي ضمن آليات البنية القانونية والدستورية الحالية، إلى حين انتخاب رئيس جديد من خلال انتخابات نزيهة وشفافة، يجب أن تنظم في أقرب وقت لتفادي الوقوع في انسداد يكون تداعياته وخيمة، مثلما يشير إليه رجل القانون الأستاذ بعجي نور الدين (كلية الحقوق جامعة الجزائر1) في هذا الحوار، موضحا أن مكافحة الفساد أولوية لا تحتمل التأجيل خاصة وأن الأرضية القانونية قائمة للتصدي للملفات الموجودة على مستوى مختلف الجهات القضائية. غير أنه يؤكد مدى أهمية أن يكون القضاء مستقلا عن كل تأثير أو تدخل أو نفوذ ليقوم بعمله وفقا للقانون حتى يتكرّس العدل، مبرزا الموقف النوعي للمؤسسة العسكرية في مرافقة مسار التحوّل السياسي من خلال الإصغاء لمطالب الشعب التي يتمّ تجسيدها ضمن آليات الدستور، بكل ما تثيره من جدل، فيحذر الأستاذ من مخاطر انتهاج طريق خارج الدستور لتحقيق ذلك بحيث للمرحلة الانتقالية كلفة اقتصادية واجتماعية وتهدّد استقرار المؤسسات التي مهما كانت نقائصها تعتبر صمام أمان لإضفاء الشفافية على الإرادة الشعبية. فيما يلي الحوار كاملا:

«الشعب»: تبرز مكافحة الفساد في صدارة المشهد الراهن، ما هي قراءتك بلغة رجل القانون لهذا التوجه؟.
د. بعجي نور الدين: الواقع أن النصوص ذات الصلة بمكافحة الفساد موجودة منذ سنوات مثل ما هو الأمر في باقي البلدان، كما أن المشرع الجزائري سنّ قوانين خاصة لتفعيل أكثر لمسار مكافحة الفساد، الذي ينمو مع تطوّر المجتمع فيظهر بطرق وممارسات جديدة، تتطلّب أن يكون المشرع حريصا دوما على تطوير النصوص القانونية وتكييفها مع المستجدات حتى يتمّ دك بؤر الفساد.
ولجعل هذه الآليات المتضمنة في الأرضية القانونية مطبقة في الواقع لابد لها من أشخاص يتولون تطبيقها بنجاعة وأولهم القضاة، وأعني جهاز العدالة بكل مكوناته، والذي له مشاكله، خاصة فيما يتعلّق بجانب استقلالية القضاء، وهي مسألة ليست دائما كاملة، وإنما غالبا ما تكون محل تدخلات وضغوطات من حولها على غرار أطراف من السلطة التنفيذية أو المتقاضين أنفسهم، باستعمال طرق ملتوية لمحاولة التأثير على عمل القضاء، وعرقلة طرح ملفات، وقد تبين مؤخرا بعد أن تحركت العدالة وجود ملفات كأنها كانت تستفيد  من تستر من جهات لها مصالح.
 هل يمكن لبقاء اليوم مواجهة الثقل الملقى على عاتقه، أقصد كثافة ملفات فساد استشرى في دواليب الإدارة والاقتصاد؟.
  يمكن مواجهة ظاهرة الفساد وإن استشرت في الساحة، لكن بشرط اعتماد استقلالية القضاء، بالمعنى الوظيفي الصحيح وليس بالمفهوم البسيط لمفهوم الاستقلالية، بحيث أن القاضي الذي يمسك ملفا يجب أن يكون متحرّرا من كل الضغوطات ومحميا من أي تأثيرات أو نفوذ.
غير أنه على القضاة أنفسهم أن يكونوا اليوم على درجة من الكفاءة العالية في مجالات التكوين القانوني والإجرائي والاطلاع على التحولات الجارية خاصة في الساحة الاقتصادية، من أجل التحكّم احترافية في فكّ خيوط ملفات الفساد حتى لا يظلم أحد.
إن القاضي المتحرّر وغير الكفء لا يمكنه أن يعالج ملفات شائكة ومتداخلة ومتشعبة باحترافية تخضع لضوابط القانون ومن ثمّة قد يسقط في الخطأ.
 بهذا الخصوص هل يحتاج القاضي إلى مرافقة تقنية خاصة في قضايا الأموال والتسيير في ظلّ عولمة الاقتصاد؟.
  بالفعل يحتاج القاضي الذي يعالج ملفات الفساد المختلفة إلى مرافقة في كافة الجوانب بما يسمح له بتشكيل رؤية دقيقة حول الموضوع الذي ينظر فيه. لذلك، طبيعي أن يلجأ إلى طلب أصحاب الاختصاص من خلال اعتماد آلية الخبرة الفنية أو التقنية.
أكثر من ذلك، أغلب ملفات الفساد تتعلّق بالمالية والمحاسبية، والقضاة جلهم تقريبا لا يتحكمون في مثل هذه المسائل ذات الطابع العلمي والتقني، التي لها أهل الاختصاص، ومن ثمّة لا مناص حينها من طلب خبيرة.
لكن ينبغي أن أوضح هنا ضرورة أن يكون الخبراء الذين يتدخّلون إلى جانب عمل القضاء كتقنيين على درجة من النزاهة والإخلاص والعدل في إعداد ملفاتهم حتى لا يزج بالقاضي في متاهات لا تحقّق الهدف المتمثل في العدل، ذلك أن الفساد أصاب كل المجتمع تقريبا.
 هناك من يعتبر أن مكافحة الفساد خيار استعجالي لا يحتمل الانتظار ومن يرى العكس بتأجيله إلى مرحلة قادمة، ما رأيك؟.
  أعتقد أن الذي يرى هناك فصل بين المسائل السياسية والاقتصادية خاطئ، لأن الأهم في النهاية هو الجانب الاقتصادي الذي يتعلّق به مستقبل المجتمع، خاصة في بلدنا الذي يواجه وضعية صعبة تستدعي الانتباه والحرص على حماية ثروات الأمة ومقدرات الأجيال.
إن مكافحة الفساد ليس من اختصاص المؤسسات السياسية خاصة وأن لها دور في تفعيل حركية التحوّل إلى مرحلة أكثر شفافية، وبالتالي لا يوجد أدنى تناقض بين الاتجاهين، البناء السياسي والنمو الاقتصادي من بوابة مكافحة الفساد، بل أن مسار مكافحة الفساد في الحين كما هو جار، ويتطلّب وقتا لاعتبارات الآجال والإجراءات المعمول، بها يثبت بوضوح وجود جدية لإطلاق إصلاح وتحول سياسي عميق وشامل.
 بخصوص الانتقال السياسي كما يقودنا الحديث إليه، هل يمكن بناء مساره المتين ضمن آليات الأحكام الدستورية فقط؟.
 لا بد هنا من الإشارة إلى وجود سبيلين اثنين لإنجاز الانتقال السياسي من أجل الخروج من الأزمة والتوجه إلى إرساء صرح جديد يستجيب لتطلعات الشعب ويعزز بنيان الدولة.السبيل الأول اعتماد خيار الخروج عن أحكام الدستور والثاني التمسّك من الجميع بخيار البقاء ضمن الدستور.
الملاحظ في بلدان العالم الثالث، لما يحصل انتقال سياسي بطريق غير دستورية، غالبا ما يكون الخطر كبيرا على مصير البلد ومستقبل الشعب، بحيث يفتح ذلك الباب واسعا أمام محاولات التدخل الأجنبي من خلال قوى خارجية تبحث عن السيطرة على ثروات وأسواق ومناطق نفوذ جيواستراتيجية، بل أن المرحلة الانتقالية في هذه الحالة قد تطول لسنوات فتظهر الفوضى وتضيع مكاسب لها مزن في المجتمع.
أما البقاء ضمن إطار الدستور، وهو أقل ضررا، مهما كانت بعض النقائص، فيكون أفضل من حيث سرعة انجاز التحوّل السياسي عن طريق انتخابات حرة وشفافة، يتم اللجوء إليها من خلال حوار مفتوح بين القوى السياسة والشعبية فيما يخصّ التنظيم والمراقبة والإشراف، خاصة وأن هناك آليات دستورية تتكفل بمقتضيات الانتقال المنشود، ليستعيد البلد توازنه وتنطلق معركة النمو الاقتصادي في ظلّ الاستقرار وسلطان القانون بما يحمي الإرادة الشعبية.
 في هذا النطاق بالذات، كيف تنظر بعين رجل القانون إلى موقف قيادة أركان الجيش الوطني الشعبي بحرصها على الاستجابة لخيار الشعب ضمن الدستور؟.
 ينبغي التوضيح بشأن هذا الأمر أن تدخل المؤسسة العسكرية مباشرة في الشأن السياسي أمر غير مستحب بالنظر لتداعياته السلبية، ويكفي الرجوع إلى مرحلة مضت لاستخلاص العبرة.
شاهدنا ما حصل في مرحلة سابقة حينما هيمنت قوى غير دستورية على دواليب الدولة، فراح القائمون على الشأن العام يتصرفون خارج القوانين التي تحكم عمل الدولة. وتصنف تلك القوى بغير الدستورية لأنها أحدثت قوانين موازية، وبالتالي نتساءل، هل كان بالإمكان في مثل هذه الوضعية لمواطنين عاديين مواجهة قوى غير دستورية، أم كان لابد أن تلتزم المؤسسة العسكرية، بكونها مؤسسة دستورية، بممارسة صلاحياتها مثل باقي المؤسسات الأخرى بما يحمي أركان الدولة ويحصّن المجتمع.
الموقف الذي انتهجه الجيش كان حتمية لما وصلت الأمور إلى درجة خطر انهيار الدولة، فرافق في هدوء «الحراك» بالإصغاء لمطالب الشعب ضمن آليات الحلول الدستورية. لقد كانت المطالب مركزة في الأول حول إسقاط العهدة الخامسة ورحيل الرئيس السابق الذي استقال لتظهر القوى غير الدستورية مستهدفة الجيش الوطني الشعبي الذي لا تزال قيادته العليا حريصة على المرافقة في تجسيد التحوّل السياسي الشامل ضمن معايير الدستور حتى لا تنزلق الجزائر إلى الهاوية، في وقت تتربص بها قوى الشر والطغيان من خلال التشويش على الديناميكية الاحتجاجية التي تميزت بالسليمة، ومن ثمّة ترتبط قوتها ومصداقيتها بمدى الحرص أيضا على انتهاج مسار الحوار الشامل والمفتوح لكافة القوى بدون إقصاء أو تهميش، من أجل الذهاب بأسرع وقت إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لتحل إثرها مرحلة أخرى يتم فيها التكفل بالتغيير الشامل تحت سلطان الإرادة الشعبية التي يعبر عنها عن طريق واحد متعارف عليه في العالم كله هو الانتخابات.   ——