طباعة هذه الصفحة

مواجهة أسباب التضخم للمحافظة على القدرة الشرائية

سلوى روابحية

تشهد أسعار العديد من المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، ارتفاعات متسارعة خلال الفترة الأخيرة، وسط زيادة مخاوف المواطنين من آثارها المباشرة على قدراتهم الشرائية التي أصبحت تهتز في كل مرة يتعمد فيها المضاربون العبث بأسعار قوتهم اليومي، أمام محدودية فعالية أجهزة الرقابة لوضع حد للتلاعبات المتكررة على مستوى كل أصناف الأسواق سواء كانت جملة أو تجزئة.   
خلال السنة الماضية وبداية العام الجاري، مؤشر الأسعار عند الاستهلاك لم يتوقف عن الارتفاع ومس كل المواد الغذائية الاستراتجية وحتى الخدماتية كالنقل الذي كان وراء ارتفاع حدة التضخم في جانفي الماضي، بعد أن دخلت الزيادة في تسعيرة النقل حيز التنفيذ، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الخدمات بـ 2.94 بالمائة وفق الأرقام الرسمية، إلى جانب الزيادة الأخرى في أسعار المواد الغذائية بـ 1.2 بالمائة في مطلع العام الجاري.    
مؤشر الأسعار عند الاستهلاك الذي ناهز 7.8 بالمائة كان وراء تسجيل معدل تضخم بلغ 8.1 بالمائة في مارس الماضي. رقم تراجع على نحو طفيف مقارنة بالأشهر الطويلة الماضية حين تخطت النسبة مستويات قياسية بلغت 8.9 بالمائة في سنة 2012 مقابل 4.5 بالمائة خلال سنة 2011، أي أن نسبة الزيادة تضاعفت مرتين في بضعة أشهر فقط، وهنا مكمن الخطر على الرغم من التفاؤل الذي أبداه مسؤولو بنك الجزائر وتوقعهم تراجع النسبة إلى حوالي النصف في العام الجاري.   
ارتفاع وتيرة التضخم الذي يعكس زيادات مستمرة في أسعار المواد الأساسية، قد يجعل من التوقعات حول تراجع نسبة التضخم في حدود 4 بالمائة في سنة 2013، مجرد “أمل” ليس إلا، خاصة وأن سياسة مضادة لمواجهة جنون ارتفاع الأسعار لا يبدو أنها واضحة للعيان، أو تم بلورتها من أجل التأثير على مؤشر الأسعار نحو الانخفاض.  
نفس الخطاب ونفس التوقعات حول مستوى التضخم في سنة 2012 ذهبت جلها أدراج الرياح، بما أن معدل 4 بالمائة لم يتحقق في نفس السنة، بل أن الوتيرة لم تنخفض دون مستوى 8 بالمائة، ففي أكتوبر الماضي قدرت بـ 8.3 بالمائة ثم ارتفعت إلى 8.6 بالمائة في نوفمبر المنصرم لتختتم السنة الفارطة على معدل اقترب كثيرا من نسبة 9 بالمائة، حسب أرقام الديوان الوطني للاحصائيات.   
وفي تفسير لاستمرار الوتيرة المرتفعة، تؤكد نفس الهيئة الرسمية أنها تعود إلى زيادة أسعار اللحوم البيضاء بأكثر من 60 بالمائة والحمراء بحوالي 41 بالمائة والخضر الطازجة بـ28 بالمائة، فضلا عن تلك الزيادات الأخرى التي مست المنتوجات الغذائية والصناعية، وكان لها التأثير المباشر على القدرة الشرائية لغالبية المواطنين من أصحاب المداخيل المتوسطة جدا والأقل من ذلك.   
التضخم الذي عادة ما يربط بتحركات مستويات الأسعار، نجم عن الزيادة في مداخيل الأفراد بحجم يفوق ذلك المسجل في كمية الانتاج، مما يعني أن الرفع في الأجور في غياب زيادة عينية في الانتاج، قد يؤدي إلى الوقوع في حلقة مفرغة نتيجة للزيادة في الأسعار، هذه الأخيرة باتت وباستمرار تغذي الضغوطات التضخمية، وقد تصبح مؤشرا مقلقا وخللا عميقا في بنية الاقتصاد الوطني.   
غير أن التضخم، وباعتراف بنك الجزائر يبقى مرتبطا بمدى تنظيم الأسواق الداخلية وحالة الاحتكار والمضاربة في الأسعار، التي أصبحت تهيمن على الممارسات التجارية سواء تعلق الأمر بالانتاج أو التوزيع وحتى الاستيراد، ليبقى المواطن هو الخاسر الأكبر في ظل استمرار وجود أسباب أخرى للتضخم، كانخفاض قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية وخاصة الدولار والأورو، وارتفاع كلفة استيراد المواد الغذائية الملتهبة أصلا في الأسواق الدولية، وهذا ما يرفع أسعارها محليا، مثلما هو عليه الحال بالنسبة للعديد من المواد الغذائية المستوردة التي تضاعفت أسعارها خلال الأشهر الماضية على نحو ملفت للانتباه ومع هذا بقي تدفقها مستمرا نحو الأسواق الوطنية.
وما يزيد الوضعية تعقيدا أن الجزائر التي أصبحت تصنف من بين الدول “الغنية” من حيث السيولة النقدية المتأتية من مداخيل المحروقات، ما عزز احتياطها الصرفي، لم تتمكن من ترجمة هذه الموارد المالية المعتبرة إلى استثمارات منتجة، بل تحولت إلى بلد مستورد لكل شيء، وبحجم واردات أصبح يفوق سنويا 40 مليار دولار، من أجل تلبية حاجيات المواطنين مما يستورد بنسبة تفوق 60 بالمائة.
تدخل الحكومة على مستويين، لدعم الفئات الاجتماعية الأكثر احتياجا من خلال رفع الأجور وزيادة حجم التحويلات الإجتماعية بما في ذلك دعم أسعار بعض المواد الاستهلاكية الأساسية يكون قد ساهم على نحو مباشر في تغذية التضخم كما أن التدابير المتخذة لامتصاص السيولة تظل غير كافية فضلا عن تلك المحاولات لمحاربة الاحتكار وإعادة تنظيم الأسواق الوطنية، ولاسيما أسواق الجملة التي يبدو أنها في حاجة ماسة إلى مراقبة صارمة وتقنين محكم ومحاربة الأسواق الموازية خاصة سوق الجملة الذي عرف انزلاقات خطيرة انعكست مباشرة على مستوى قيمة العملة المحلية التي ناهز الفرق بين سعرها في السوق الرسمي ومثيله في السوق الموازي، حوالي 40 بالمائة.
السيولة المالية الكبيرة المتداولة في مختلف الأسواق الموازية أو تلك التي تضخ في قنوات واستثمارات غير منتجة، لن تعمل على زيادة العرض من الانتاج الحقيقي ولن تعالج الآثار السلبية الناجمة عن لهيب الأسعار الذي لم يعد يميز فترات معينة من السنة وعشية مناسبات دينية وغيرها على غرار شهر رمضان الكريم، وإنما أصبح سمة تطبع أشهر وفصول السنة لسبب بسيط وهو غياب شبه تام لدور الجهات المعنية في مراقبة وتقنين ومواجهة الممارسات المضارباتية وكل العوامل المؤدية إلى التضخم.