طباعة هذه الصفحة

الأراضي الزراعية في صلب التحولات

بعث الشراكة المحلية والأجنبية في إطار نظام الامتياز

سعيد بن عياد

كانت الأراضي الفلاحية لا تزال وسوف تبقى دائما في صلب التحولات التي تمرّ بها البلاد بالنظر لخصوصيتها التاريخية والاقتصادية وارتباطها بشكل مباشر بالمسار الطويل الذي سلكه الشعب الجزائري، ومن أبرز محطاته خلال الحقبة الاستدمارية لما صادر الاحتلال الفرنسي الأراضي الزراعية ومنحها بغير وجه حق لزبانيته من شراذم الكولون وبدرجة فعالة أثناء الثور ة التحريرية، لما سجل عالم الريف مساهمة الفلاحين في المجهود الحربي من اجل استرجاع السيادة وكذلك بعد استرجاع السيادة الوطنية حينما اعتمد على قطاع الفلاحة بكل فروعه في حمل لواء بناء السيادة الاقتصادية.

يعود الحديث حاليا حول واقع ومستقبل الأراضي الفلاحية والمزارع النموذجية التابعة للدولة في ظلّ خيارات تثير جدلا في مختلف الأوساط المعنية مباشرة أو المهتمة، خاصة بعد تداول وجود توجه إلى تمليك الأجانب للأرض الزراعية سعيا كما يبدو لإعطاء دفع جديد وقوي لمساهمة الفلاحة في الرفع من وتيرة النمو ضمن ورقة الطريق النموذج الاقتصادي الجديد. غير أن هذا المسلك على ما فيه من جوانب اقتصادية ومالية يمكن التطلع إليها، إلا أنه يثير تخوفات جمّة في المديين المتوسط والبعيد فيما يتعلّق بجانب هام يرتبط بمسألة السيادة بالمفهم الشامل والاقتصادية منها بالأخص.
حقيقة يستشف من رصد المشهد القائم اليوم أن الأراضي الفلاحية ذات الطابع العمومي لا تزال متأخرة عن المستوى الذي يجب أن تلعبه في المنظومة الاقتصادية، لتكون أحد الروافد القوية لإنتاج الثروة والمساهمة في تنمية المداخيل خارج المحروقات من خلال بعث التصدير إلى الأسواق الخارجية، وهي المهمة التي تمّ الشروع فيها في السنوات الأخيرة، لكن صداها الاقتصادي والمالي لا يزال متواضعا بل ومحتشما مقارنة بالطاقات المتوفرة والطلب العالمي المطروح خاصة في أسواق تعاني من أزمات التموين لاعتبارات إقليمية عديدة كما هو في الخليج وآسيا وحتى أوروبا بالنسبة للمواد الفلاحية المصنفة طبيعة بامتياز وخالية من المضافات الكيمياوية.

تغيّر الطابع القانوني وبقيت الأرض
لقد تغيّر الطابع القانوني للأراضي الفلاحية العمومية لمرات عديدة، إذ انتقلت ون مرحلة التسيير الذاتي للمزارع خلال سنوات ما بعد فجر استرجاع السيادة الوطنية إلى التأميمات خلال عهد الثورة الزراعية في السبعينات ثم مرحلة المستثمرات بعد تفكيك البنية الهيكلية للفلاحة، وكانت لكل مرحلة اعتباراتها ومبرراتها كما حملت مكاسب وعرفت إخفاقات. لكن الوضعية الراهنة اليوم تستدعي القيام بقراءة متأنية وعميقة لملف الأراضي الزراعية التي توارثتها أجيال وبقيت من ثوابت السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وذلك باتباع منهجية تراعي المرجعية التاريخية وتنسجم مع التحولات الضرورية وتستشرف المستقبل دون أي إغفال أو تهاون في حماية الطابع العمومي لهذا الموروث.
في هذا الإطار، فإن الأرض مثل النفط هما ركيزتان ثابتتان في الحياة الوطنية لهما امتداد في الضمير الجمعي للمجتمع ويتصلان بمستقبل الأجيال، مما يضع الملف على درجة من الحساسية والمسؤولية في معالجته بحيث ينبغي التوصل إلى بناء معادلة تجمع بين كافة عناصره باتجاه تحقيق النجاعة وإعطاء الفعالية المطلوبة دون المساس بالثوابت الاقتصادية تتقدمها قاعدة ملكية الدولة للأراضي الزراعية مع انفتاح على شراكة متعدّدة الأشكال سواء محلية أو أجنبية وفقا لبرامج ومشاريع تحمل بوادر إنتاج الثروة وتتطابق مع الخيارات الجديدة مثل التصدير وإنعاش الصناعة التحويلية.
منذ أن تمّ تقسيم وتجزئة المزارع إلى مستثمرات فردية وجماعية تحت وقع توجهات اقتصاد سوق لم تتضح معالمه في بداية الأمر، في بداية التسعينات، سجلت خروقات وتجاوزات وممارسات ألحقت ضررا كبيرا بالأراضي الفلاحية العمومية زادها وطأة التوسع العمراني الذي حمل مشاريع أنجزت تحت ضغط الطلب لتكون الحصيلة كما تعكسه حقائق متيجة ومناطق أخرى كانت في الماضي خزانا فلاحيا بامتياز. كما تبدّدت بفعل أنانية الفرد والنزعة المفرطة للتملك وسائل الإنتاج وضاعت موارد ومخازن بالموازاة مع انقراض اليد العاملة الاحترافية التي ارتبطت بشكل وثيق مع خدمة الأرض التي تكتسي خصوصيات تتعلق بالإنسان أكثر من الآلة والعتاد، بحيث العمل الزراعي له مواقيته وفصوله وثقافته.

الرقم الصعب في معادلة النمو
قبل سنوات مضت وأمام هجمة شرسة على احتياطات عقارية فلاحية وغابية سجل رئيس الجمهورية خطورة التمادي في سلوك يحمل أخطارا مكلفة على أجيال بكامله وكلّف بوضوح السلطات العمومية خاصة المختصة مباشرة بالأمر بالتحرك لتصحيح الوضع بإحاطة الأراضي الفلاحية بكل الحماية القانونية والإجرائية والتنظيمية اللازمة، وفي مناسبة وطنية ذات أول ماي حذّر من تورطوا في قضايا الاعتداء على العقار الفلاحي، بأن يستعدوا لمواجهة متابعات القضاء كون المسألة تتعلّق بأجيال قادمة يجب أن تحتفظ لهم المجموعة الوطنية بالموروث الفلاحي وأوّله العقار خاصة الصالح للزراعة بحيث يعتبر تحويل طابعه الاقتصادي الأصلي، أي الاستغلال الزراعي بكل فروعه، عملا مخالفا للقانون ويستوجب التصحيح.
ما عدا حالات محدودة في كل ولاية لا تزال وفية لوظيفتها الإنتاجية، فإن الوضعية الراهنة لمردودية المزارع العمومية المبعثرة في شكل مستثمرات فردية وجماعية تخضع لنظام الامتياز ما أفقد الكثير منها وزنها الاقتصادي إلى درجة أن فضاءات شاسعة كانت تدر خيرات من خضر وفواكه ومحاصيل قابلة للتصدير تحوّلت إلى أراضي بور لتضيع بين استحواذ غير قانوني أو بيع تحت الطاولة أو تفريط ممن ائتمنوا عليها من فلاحين منهم من أخلفوا الوعد لاعتبارات منها ما هو يمكن تفهمه ومنها ما يصبّ استساغته. كما تعرضت مزارع نموذجية كانت منارات إنتاجية لممارسات أخلّت بتوازنها في المشهد الاقتصادي.
لذلك يكون السعي إلى إعادة ترميم دور العقار الفلاحي وبعثه مجددا ضمن التوجهات الاقتصادية للنمو حتمية خاصة في ظلّ التداعيات السلبية للصدمة المالية الخارجية التي تقتضي انعكاساتها السلبية تجنيد كافة الموارد وحشد جميع الطاقات حول مسار النمو ليكون أفضل علاج لإفرازات الأزمة بإنتاج الثروة البديلة للمحروقات وتوفير فرص العمل، فيتكامل الجانبان الاقتصادي والاجتماعي انسجاما مع مضمون الدولة الاجتماعية التي ما فتئ الرئيس بوتفيلقة يؤكد الحرص على مواصلة انجازها مواصلة للنهج الوطني الذي ارسي غداة استرجاع السيادة الوطنية وكانت الأرض دوما الرقم الصعب والثابت في برامجه.

رؤية واضحة وكل تأخير له كلفة
انطلاقا من تلك الرؤية بخلفياتها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية من المفيد تناول رسم المعالم المستقبلية لاستثمار واستغلال العقار الفلاحي العمومي المصنف في الأملاك الخاصة للدولة، وحتى التابع للقطاع الخاص الوطني وفقا لرؤية واضحة تراعي كافة الجوانب وتندرج في متطلبات مسار النموو هو أمر ممكن دونما مساس بالطابع القانوني الجوهري والمبدئي للأراضي الزراعية، طالما أن صيغة الامتياز توفر كافة الحلول وتفتح المجال للمبادرات الإنتاجية بكل الضمانات التي يحتاج إليها المتعامل شخصا طبيعيا كان أو مؤسسة وهو ما يكرسه حتى الدستور.
ضمن هذا الخيار الذي يغلب عليه الطابع الاقتصادي أكثر من الجانب التمليكي - الذي يثير انشغال وتساؤل البعض وقلق وحيرة البعض الآخر، سواء في عالم الفلاحة أو المحيط الاجتماعي العام، بالنظر لمركز الأرض في الضمير الجمعي ومحلّه في جوهر السيادة للأسباب سالفة الذكر - يمكن إطلاق عمليات استثمارية إنتاجية في كل المواد الطازجة أو التي تدخل في الصناعة الغذائية، خاصة ذات الثقل في الميزان التجاري سواء المصنفة في خانة الاستيراد أو تلك المدرجة في التصدير والمعوّل عليها في انجاز التحوّل النوعي للتخلص من تبعية المنظومة الاقتصادية الوطنية للمحروقات، وهي المهمة المفصلية التي تعتبر في المتناول بعيدا عن السقوط في متاهات حلول تبدو للوهلة الأولى مفيدة، لكن قد تكون لها كلفة مرهقة على أكثر من جانب في المديين المتوسط والبعيد.
ولا ينبغي القفز على مرحلة صعبة عانى فيها العقار الفلاحي مثل تلك التي شهدتها العشرية السوداء، حينما اضطر الفلاحون للنزوح الداخلي تطاردهم جماعات الإرهاب  مما عرض المزارع والمستثمرات للضياع بمختلف أشكاله وتراجع قطاع الفلاحة عن معدلات النمو قبل أن تعيد المصالحة المنجزة بإرادة الدولة الروح لتلك الربوع المترامية الأطراف، لتنبت زرعا وخيرات وتشعّ منها بوادر انفراج الأزمة إذا ما جرى الحرص على كافة المستويات على صون البنية التحتية لقطاع الفلاحة وركيزتها الأرض الخصبة التي لا يمكن أن تبقى متأخرة عن ركب الديناميكية الاستثمارية وضرورة انخراطها في مسار النمو، بما في ذلك جذب الرأسمال الأجنبي للعمل بنظام الامتياز والشراكة.