طباعة هذه الصفحة

الرّوائي محمد مفلاح في حوار مع “الشعب”

أدباء سجنوا أنفسهم في “جزيرة ثقافة الآخر” وقطعوا صلتهم بمصير شعبهم

حاورته: هدى بوعطيح

أكّد الروائي محمد مفلاح في حوار مع “الشعب” أنّ الأدب المكتوب باللغة الفرنسية، يظل في حاجة إلى الشحنة الحضارية التي تجعل منه أدبا مميزا عن الطروحات الفرنسية، مشيرا إلى أنّ الأدباء الفرنكوفونيّين انغمسوا في ثقافة جبلتها اللغة الفرنسية، وارتبطوا بفضاء حضاري آخر هو عالم الفرنكوفونية.
وقال مفلاح إنّ الأدب المكتوب باللغة الفرنسية إذا استمر في إنتاج أعماله الإبداعية حسب أذواق القرّاء الفرنسيّين المغرمين بالحكايات الغرائبية، واهتمامات نخبتنا الجزائرية التي شكّلتها اللغة الفرنسية، ستقطع “صلة الرحم” بثقافة الشعب الجزائري وعمقها الحضاري، وبالتالي ـ يضيف ـ سيعزل الكاتب نفسه عن قرّاءه من الجيل الجديد المهتم كثيرا بالكتابة العربية، والتي أصبح لها حضور قوي برموزها وتقاليدها ما يبشّر بنهضة إبداعية.

❊ الشعب: باعتباركم روائي يكتب باللغة العربية، ما هي نظرتكم إلى من يكتبون بلغة فولتير، وماذا تقولون عن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في الجزائر؟

❊❊ محمد مفلاح: أعتقد أنّ انتمائي إلى الجيل المخضرم الذي تعلّم في بدايته الدراسية باللغة الفرنسية ثم باللغة العربية بعد حصولنا على الاستقلال، سمح لي بالإطلاع على منجزنا الأدبي الجزائري باللغتين الفرنسية والعربية، وأرى هذا الجيل “المزدوج اللغة” (bilingue)، أقدر على فهم ظاهرة الكتابة باللغة الفرنسية، والإحاطة بانعكاساتها في مجتمع يطمح لترسيخ تقاليد أدبية مرتبطة بلغة الوطن وهويته الحضارية.
ويبدو لي أنّ التأريخ للحياة الأدبية الجزائرية وبخاصة الإبداعية، يفرض عليّ التمييز بين مرحلتين، حتى نتمكّن من الحكم الموضوعي على هذه الظاهرة، فالمرحلة الأولى تبدأ منذ ظهور الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية، وإلى غاية استرجاع السيادة الوطنية أي خلال فترة الاحتلال الفرنسي، والمرحلة الثانية هي التي نعيش اليوم مخاضها منذ الاستقلال.
ففي مرحلة الاحتلال الفرنسي وبخاصة في عهد الثورة التحريرية، ظهرت روايات لكتّاب تعلّموا باللغة الفرنسية ومنهم محمد ديب، مولود فرعون، كاتب ياسين ومولود معمري..وأعمالهم الإبداعية تتميز بالتعبير الصادق عن الذات الجزائرية وخصوصية الواقع الجزائري ومعاناة الجزائريين المصنفين وقتذاك في خانة “الأهالي”، ولهذا أرى أنّ الرواية خاضت معركتها الثقافية الحاسمة  وواجهت أدب الاحتلال الفرنسي.
فاللغة الفرنسية باعتبارها “غنيمة” حسب تعبير بعض الكتّاب، فقد استعملت في جنس أدبي حديث للتعبير عن آمال وطموحات الشعب الجزائري. وأثناء هذه المرحلة لم تكن اللغة العربية في الجزائر مهيأة لاستيعاب هذا الفن، وقد انتظر أدباؤنا سنوات لدخول عالم الرواية إذ نضجت في المرحلة اللاحقة أي منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وبفضل جهود الطاهر وطار، عبد الحميد بن هدوقة وعبد الملك مرتاض، دخلنا مرحلة الكتابة الفعلية للرواية الفنية، وفي أجواء الانتصار للغة العربية و«الثورات الثلاث”، ظهر الجيل السبعيني الذي تحمّل مسؤولية كتابة الرواية باللغة العربية. وأعتزّ بالانتماء إلى هذا الجيل الذي رسّخ هذا الجنس الأدبي في حياتنا الثقافية المرتبطة بفضائنا الحضاري وهو العربي الإسلامي. ورغم هذا الميل إلى الكتابة بالعربية لأسباب ذاتية وموضوعية، فأنا لا تقلقني الكتابات الإبداعية باللغة الفرنسية لأنّني أؤمن بالتنوع شرط أن تظل هذه الكتابات تعكس اهتمامات المواطن الجزائري وطموحه، وتعبّر بصدق عن خصوصيته كما كانت أعمال المرحلة الأولى التي أشرنا إليها آنفا.               
❊ من خلال تجاربكم الشخصية وعلاقاتكم الأدبية، ألا ترون أنّ هناك غياب تواصل بين من يكتبون باللغة العربية والفرنسية؟
❊❊ لم يعد الوضع الحالي مقتصرا على غياب التواصل بين الكتاب باللغة العربية والكتاب باللغة الفرنسية، بل أصبحت اليوم بينهم هوّة سحيقة تتمثل أساسا في مرجعياتهم المختلفة.
الكُتّاب باللغة العربية أكثر ارتباطا بواقع المجتمع وفضائنا الحضاري، أما الكُتّاب باللغة الفرنسية فهم منغمسون في ثقافة جبلتها اللغة الفرنسية، وارتبطوا بفضاء حضاري آخر هو عالم الفرنكوفونية. وأستثني من هذا التيار بضع الكتاب وأذكر منهم على سبيل المثال رشيد بوجدرة، الذي يكتب الرواية بوعي حضاري متميز لإلمامه بالتراث الإسلامي والتاريخ الوطني.      
❊ لكن ألا ترون أنّ الأعمال المنتجة باللغة الفرنسية أثّرت على الإبداع الأدبي الجزائري، حيث أصبح يُنظر إليه على أنّه إنتاج محدود، على اعتبار أنّ أغلب من يكتبون باللغة الفرنسية لا يُحتسبون على الجزائر؟
❊❊ لستُ من الأشخاص الذين يبلغون هؤلاء الأدباء الذين اختاروا الكتابة اللغة الفرنسية، غير أنّني أراهم قد سجنوا أنفسهم في “جزيرة ثقافة الآخر” وقطعوا صلتهم بمصير شعبهم. ومن يقرأ كتابات بوعلام صنصال ومليكة مقدم وغيرهما، يدرك مأساة هذه النخبة التي قطعت صلتها بواقع مجتمعنا الجزائري، الذي يشهد تحولات تحتاج إلى أدباء وكتاب ينصتون كل يوم إلى نبضات هذا التغير الرهيب على كل المستويات.
  ❊ إلى أيّ مدى يمكن اعتبار الأدب المكتوب بالفرنسية عاملا للتأسيس للأدب الجزائري؟
❊❊ إذا استمر الأدب المكتوب باللغة الفرنسية في إنتاج أعماله الإبداعية حسب أذواق القراء الفرنسيين المغرمين بالحكايات الغرائبية، واهتمامات نخبتنا الجزائرية التي شكّلتها اللغة الفرنسية، فستقطع “صلة الرحم” بثقافة الشعب الجزائري وعمقها الحضاري، وبالتالي سيعزل نفسه عن قرّاء جدد ترعرعوا في حضن الجامعة، وشبّوا على مطالعة الأدب بلغة الضاد. والمتتبع لحركية الإنتاج الإبداعي الجزائري، يلاحظ أنّ الجيل الجديد يهتم كثيرا بالكتابة العربية التي أصبح لها حضور قوي برموزه وتقاليده، وهو يبشّر بنهضة إبداعية.       
 ❊ أين تصنف الرواية الجزائرية المكتوبة بلغة الضاد، مقارنة بتلك المكتوبة بلغة موليير؟
❊❊ بالرغم من الدعاية الإعلامية الكبيرة التي يحظى بها الأدب المكتوب باللغة الفرنسية، إلا أنه يظل في حاجة إلى الشحنة الحضارية التي تجعل منه أدبا مميزا عن الطروحات الفرنسية.
فهؤلاء الكتّاب يعتقدون أنهم دخلوا عالم الحداثة، وقد تحوّلوا بعد هذا الفهم الذي جلبته اللغة الفرنسية، إلى مبشّرين لهذه الحداثة “المزيّفة”، تبنّوها دون دراسة معمقة لواقع شعبهم ومعرفة الرموز التي تشكّل وجدان الشعب الجزائري.  
وأعتقد أنّ هذه “النظرة الفوقية” التي أبعدت الكتّاب عن واقعهم، هي السبب الذي يجعل رواياتهم فاقدة للروح الجزائرية، وبالتالي لا يمكنها أن تحظى بمكانة مميّزة بين روايات العالم.