طباعة هذه الصفحة

المسرحي والأكاديمي د.حبيب بوخليفة لـ«الشعب»:

الفضاء الجامعي الثقافي كفيل بتغيير التفكير الترقيعي

حاوره: أسامة إفراح

يحدثنا الأكاديمي المسرحي د.حبيب بوخليفة عن العلاقة بين المسرح والجامعة، والعلاقة التفاعلية بينهما، والتي بإمكانها أن تؤسس لإنسان سويّ، يبني بدوره مجتمعا سليما بدعائم ديموقراطية والتسامح. وأكد بوخليفة على ضرورة أن تتبنى الجامعة الفن الرابع، على غرار ما هو موجود في المجتمعات المعرفة، إذ يرى بأن «الأمر يتجاوز محور الفوائد في عملية التبادل، وإنما يخص جوهر وجود الأمة في وعائها الثقافي والحضاري». وشدّد محدثنا على دور الثقافة في محاربة العنف والتطرف، داعيا إلى عدم إهمال ما يسمى بـ»الدراسات الثقافية».
»الشعب»: حضرت مؤخرا فعاليات الطبعة 12 من مهرجان جيجل للمسرح الجامعي.. ما هي الملاحظات والانطباعات التي عدت بها من هناك؟
 بوخليفة حبيب: عدت بإحساس جميل حاملا الأمل في مستقبل الفعل المسرحي الدرامي في الجزائر، بحكم ارتباطه بالمعرفة الثقافية العلمية، بعيدا عن استنساخ أنماط وأشكال شبه مسرحية في الوسط الاحترافي أو المؤسسات العمومية التي باتت تجسد خطرا على الممارسة الفنية الجادة، التي تعتمد الاتباع والابتداع. برغم ضعف الإمكانيات والتكوين هناك جدية تبرز في التعامل مع الركح سواء من ناحية النصوص أو الإخراج والسينوغرافيا، وكل المفردات الفنية الأخرى التي تركب العرض المسرحي والإرادة لتجاوز مسرح «الهدرة» الذي تعودنا عليه منذ أكثر من أربع عقود. تضمن المهرجان بعض العروض الشيقة تجاوز مستواها الفني والجمالي الكثير من العروض التي تنتجها المؤسسات العمومية. هذا الفضاء وسيلة لاكتشاف المواهب المختلفة في الحقل المسرحي على المستوى الجامعي، وسيكون خزانا رائعا مستقبلا في ملء الفراغ الذي أنتجه مفهوم خاطئ للممارسة المسرحية عموما، لذلك تميز بالجهود الكبيرة للطلاب على تركيب عروضهم في الرغبة بالتعبير عن واقع مجتمعهم.. ثم لا ننسى مدينة جيجل الساحرة وأهلها الكرماء والمدير العام للخدمات الجامعية ومحافظ المهرجان وكل طاقم تنظيم هذا الحدث الثقافي.. إذ من واجب وزارة التعليم العالي أن تهتم أكثر بهذا الحدث الذي بإمكانه أن يجعل من الوسط الجامعي فضاءً لتغيير أوضاع الجامعة بحيث يمكن الطالب من عيش جماليات الوجود ويتمسك إيجابيا بالحياة، ويتعلم نطق الكلمة بالفعل والحركة في إدراك أهمية الحوار في بناء المجتمعات الديموقراطية والتسامح لأن الفن المسرحي هو فعلا مؤشر حضاري قوي ودعوة إلى الجمال.
كيف تساهم مثل هذه التظاهرات في تفعيل الإبداع المسرحي؟ ولماذا لا نشاهد مهرجانات أكثر من هذا القبيل؟
 إن مثل تلك التظاهرات تلعب دورا أساسيا في بناء المجتمعات البشرية فالمسرح جزء لا يتجزأ من الدينامية الثقافية باعتباره عنصرا هاما في تجسيد الشخصية الثقافية، وأهم من ذلك أنه ضرورة تعبيرية اتخذها الإنسان كسلوك اجتماعي ثقافي منذ النشأة الأولى. يتحتم على الوسط الجامعي أن يتبنى هذا النشاط مثلما هو سائر في كل جامعات المجتمعات المعرفية في العالم. نترحّم على مصطفى كاتب عملاق الفعل المسرحي وبالمناسبة نذكّر أنه أول من أدخل الفن المسرحي إلى الحرم الجامعي في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، بتنظيم فرق مسرحية على مستوى الجامعة لما كان المرحوم الصديق بن يحيى وزيرا للتعليم العالي.
كما يمكن اعتبار النشاط الفني المسرحي علاجا نفسيا ضد العنف إذ يسمح للطالب باكتشاف إنسانيته من خلال الإحساس بالكلمة المنطوقة وجمالها في الحركة والفعل، فيتفادى الكبت بجميع أشكاله ويرتبط بالمجموعة البشرية ارتباطا إيجابيا يتميز بالطقوس الاحتفالية التي ينظمها ويمارسها الطالب في ظل ظروف مختلفة. إن المسرح ظاهرة فنية اجتماعية لا تتجزأ عن الثقافة، وفي هذا الإطار تصبح العلاقة مرتبطة ارتباطا وثيقا بنمط الحياة ونموها وبالتوافق والانسجام بين العلاقات الاجتماعية الأخرى. والفضاء الجامعي الثقافي الفني هو السبيل إلى تغيير أساليب التفكير الترقيعي البالي.   
هناك أسباب عديدة أدت إلى عدم الاهتمام بمثل تلك التظاهرات الثقافية الفنية الجادة من رغم أن الدولة الجزائرية تبذل جهودا لا يستهان بها بهدف إثرائها، فأطر التسيير رديئة ومتعفنة ولا تواكب إدراك أهمية تلك الأحداث إلا نادرا. والإبداع الفني لا يزال في اللاشعور الجمعي الجزائري شيئا طفيليا لا يعني الكثير. ثم إن الأطر السياسية لا تؤمن بالفعل الثقافي الفني.
*هل يمكن اعتبار الفائدة متبادلة بين المسرح والجامعة، أو بين الثقافة والجامعة إن نحن أردنا التعميم، أم أنها علاقة في أحادية الاتجاه؟
 الأمر يتجاوز محور الفوائد في عملية التبادل، وإنما يخص جوهر وجود الأمة في وعائها الثقافي والحضاري. نحن اليوم بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التعبير الفني الجماعي، وهذا التجاوب ما بين الأطراف المتعددة الذي يتحدث عنه «مارسيل موس» هو التفاعل بين جمال الكتابة الدرامية والمفردات الفنية الأخرى، تلتقي لتجسد عملا فنيا متكاملا في الشكل والمضمون ونسميه العرض المسرحي أو المشهد، فهو يحرك في طياته عقائد وإحساسات المجموعة البشرية وبذلك يتجاوز الأدب المكتوب بحيث يصبح الجمال فعلا اجتماعيا.. الإبداع الفني المسرحي لا يعترف بأحادية الاتجاه فهو فضاء الإمكان، وإذا اجتمع الإبداع الفني بالمعرفة يتوقف التلاعب بعقول الناس.. أمر يخيف النظم السياسية المركزية التي تعتمد على العنف كأسلوب لبناء المجتمعات في ظل شرعية خرافية تختزل مفهوم الدولة في السلطة، لذلك يبقى المسرح حاضرا غائبا.
هنالك من يختزل وظيفة الجامعة في تحصيل المعارف وتلقين المعلومات.. هل أنت مع هذه الرؤية؟
 هذه الرؤية جزء من المعادلة المعرفية على مستوى الفضاء الجامعي وليست كل الجامعة التي لابد أن تفرز عقولا نيرة في كل المجالات بناءً على الشخصية الثقافية القاعدية التي تؤهل النخبة لإدراك مسؤوليتها في بناء واستمرار الدولة بمفهومها الحضاري والحفاظ على الهوية المشتركة لكل الجزائريين دون استثناء بالحفاظ على الأرض والعرض.
*نلاحظ تقدما ملفتا للعديد من الدول فيما يسمى «الدراسات الثقافية»، فيما تنعدم هذه التخصصات لدينا أو تكاد.. ما هو تفسير ذلك؟
** تبنت «الدراسات الثقافية» مفهوما اصطلاحيا واسعاً للثقافة، يجاور مجال مفهوم الأنثربولوجيا التي تعني بالثقافة «أنماط الحياة والتعابير المختلفة عنها»، أي سلوك الإنسان وهو يحيا ويتكلم ويتفاعل في الفضاءات المختلفة سواء في العمل أو الجنائز والأعراس لينظم طقوسه التي تميزه. أدخلت الدراسات الثقافية عددا هائلا من الحقول التي أصبحت نوعاً من ممارسة النظرية الأدبية أكثر شمولا والخروج عن دائرة النقد الأدبي المألوف سابقا إلى دراسة الفنون بجميع أشكالها، وسلوكات البشر في بيئة ثقافية معينة أو حضارية إنسانية وهذا ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي في إنجلترا، وكان ذلك نتاجا للحرب العالمية الثانية، فكل ما يرتبط بالحياة والتعبير عنها يستحق الدراسة بهدف توحيد الرؤى في إعادة بناء الإنسان الغربي دون تمييز طبقي أو عنصري، ما جعل الثقافة من أولويات الدول المتقدمة، أما المجتمعات المتخلفة فلا تهمها الثقافة وتبقى نصف حضارية ونصف بدائية «تيموسية».
كيف يمكن للجامعة أن توفر جمهورا متجددا للركح الجزائري؟
 إذا كانت السياسة الثقافية عرجاء ورديئة في إدراك أهمية المسرح أولا في تسيير الفضاءات والمنشآت الثقافية المختلفة والاهتمام بالتكوين على كل المستويات، كيف يمكن أن ننتج عروضا شيقة وممتعة يتكاثر عليها الجمهور فكل العناصر مترابطة ابتداء من العائلة، سواء كانت نووية أم تقليدية، إلى المدرسة إلى الثانوية، فالجامعة التي تبقى السبيل الأهم في خلق خزان واسع للفعل المسرحي بجميع مفرداته الفنية الأخرى، وإنشاء معاهد للتكوين المسرحي الدرامي.
كلمة أخيرة؟
 لا وجود لأمة خارج بناء الإنسان، وبناء الإنسان يتطلب بالدرجة الأولى الاهتمام بالتربية الفنية الثقافية للنشء الجديد.. وبالتوفيق لنا جميعا في بناء الثقافة الجزائرية.