طباعة هذه الصفحة

الأستاذ الجامعي عزيز حداد لـ”الشعب”:

الآثار أصول الشعوب ومن أهملها أرسى قطيعة مع ماضيه وأظلم مستقبله

حاورته: أمال مرابطي


 لكل أمة تراث وآثار، والأمة الحية من تعتز بتراثها وآثارها باعتبارها جزءا أساسيا من مكونات تاريخ وحضارة وهوية تلك الأمة، وهي التي توثق وتكشف عن عراقة مجتمعات وتدوين تاريخ واضح وصادق لأبرز ما مر بهذه الدولة، وللوقوف على أهمية علم الآثار في تقوية الذاكرة واكتشاف عراقتنا الوطنية كان لـ«الشعب” حوار مع الأستاذ عزيز حداد من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، الذي توغل معنا في أدغال عالم الكنوز الأثرية التي تزخر بها الجزائر وما تتعرض له من طرف “مافيا” الآثار..

الشعب: ما الأضرار التي تنجم من ضياع التراث الإنساني المادي والمعنوي؟  
عزيز حداد: الآثار من أهم المظاهر الحضارية في فترات مختلفة، تراث مادي كبير، بالتالي فهو أصول الشعوب والحضارات، ومن لم يحافظ على هذه الآثار ويبحث عنها ويدرسها، فإنه قد اوجد قطيعة مع ماضيه وأيضا لا يستطيع أن يعيش حاضره ولا أن يستشرق لمستقبله.
أول شيء قامت به فرنسا عندما احتلت الجزائر،اهتمت بالآثار وأقامت جمعيات أثرية في الجزائر، وهران، وقسنطينة، بالإضافة إلى جمعيات تاريخية وظيفتها البحث والنبش عن هذه الآثار، خاصة الرومانية والبيزنطية لكي تعطي شرعية، حسب اعتقادها، لهذا الاحتلال وتبرر في ذلك للعالم أنها أرادت أن تسترجع مجدها وتاريخها، وبالتالي اهتمت بذلك.
بالمقابل أرادت أن تطمس الآثار الإسلامية، فكلها مبرر آن هذه الأمم التي حكمت شمال إفريقيا شعوب همجية وبربرية، وبالتالي يجب أن تخرج من همجيتها وبربريتها، حسب ما تراه.
المحافظة على هذا الإرث والتراث يحتاج لقوانين وجهد من الجميع، لما تزخر به بلادنا منذ القديم مرورا بالفنينيقين والقرطاجيين والبيزنطيين وفترات التاريخ الإسلامي والعثماني، وهذا طبعا يزيدنا معرفة وقوة بتاريخنا الطويل والزاخر.
برأيك ما الإستراتيجية الواجب إتباعها للمحافظة وحماية التراث من الضياع؟
❊ حقيقة هناك جوانب وجهات متعددة تعمل على المحافظة على هذه الذاكرة المادية، التي جسدت كذلك الذاكرة الفكرية والذاكرة العملية، وهذا طبعا يتطلب من الجميع بدءا من طاقات لمجتمع للمحافظة على هذه الآثار، كما يدخل فيها الجانب السياحي.
المجتمع والأسرة التي تحافظ على هذه الآثار في حد ذاتها ستعرف تاريخها وفي نفس الوقت تعرف زوارها بخصائصها وكنوزها الضخمة التي تنفرد بها.
علينا أيضا ألا ننسى الجهات الوصية بهذا الجانب، هناك مؤسسات أُنشأت للحفاظ على كنوز هويتنا، منها الوكالة الوطنية للآثار، المتاحف والوزارات ذات الصلة بالآثار، بما في ذلك الهيئات القضائية للدرك والأمن، كذلك الحقوقيين والخبراء والعلماء وجمعيات تاريخية وأثرية تهتم بذلك، كلها مؤسسات تعمل على تكاثف الجهود لتساهم في الحفاظ على المسارح والمدن الأثرية، التي تزخر بها بلادنا، منها ما اكتشف ومنها ما يزال مدفونا تحت الأرض.
علينا أن نحمي ارثنا من التخريب والتهريب، فقد زرت الكثير من الدول في العالم، التي أولت عناية كبيرة بآثارها وأبرزت وجهة تاريخها، فالآثار المادية والمعنوية والمكتوبة وجه حقيقيللأمة والمجتمع، وبالتالي أصبحت من بين المعايير التي تعكس نشاط تلك الدول، وتبرز تحضرها وتطورها في مدى تحكمها بآثارها وتوظيفها لخدمة تاريخها، حاضرها ومستقبلها.
❊ لم يعد علم الآثار بشكل عام مجرد بحث عن الكنوز وهواية للتجارة، وإنما أصبح مادة للبحث عن تاريخ الأمم عبر الأزمنة، برأيك كيف وضعت الجزائر بصمتها في هذا المجال؟
❊❊ العلوم متعددة جدا في بلادنا وفي العالم، من بينها علم التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والسلالات وغيرها من العلوم التي أصبحت لها صلة بعلم الآثار، لذلك في بلادنا يوجد قسم وتخصصات

لعلم الآثار في جل الجامعات الجزائرية، التي يفوق تعدادها 70 مركزا جامعيا ومدارس تهتم بذلك.
علم الآثار ليس فقط فن يتم فيه إبراز الجانب التراثي وإنما هو علم يكتشف مستوى هذه الشعوب في زمن ما، مستوى التحضر والتطور، مستوى التحكم ومستوى  العلاقات الاجتماعية، حيث نجد هذه الآثار الموجودة بقالمة بالمسرح وفي المدن المحيطة بها تبين لنا أهمية العمران في هذه المنطقة وما مدى أهميتها على الجانب الاقتصادي،  وبالتالي فالكثير من المدن الحضارية الأثرية القديمة تؤكد على أن هذه المدينة معمورة، والدليل أصبحت من الدول الراقية في واقعنا نظرا للزخم التاريخي وما تشكله من أهمية اقتصادية وموقعها الجغرافي، فهي حلقة وصل بين الشرق والغرب وغير ذلك.
❊❊ هل ترى بأن هناك محاولات واجتهادات من أجل إبراز الأهمية التاريخية والمعمارية للقلاع والحصون أم أنها مغيبة؟
❊❊ علم الآثار من العلوم والفنون الأعمق، لأنها تتطلب إمكانات وعلماء وخبراء، تتطلب وسائل وآليات ورصيد  معرفي للبحث والمحافظة عليه، فالبحث في التراث والقلاع والحصون التي وجدت عبر القرون يحتاج للتنقيب، بالإضافة إلى معرفة الأماكن التي وجدت فيها هذه القلاع، وأيضا المحافظة على ما اكتشف.
الفرنسيون اجتهدوا في هذا الجانب لغرض استعماري  ولغرض علمي وهاوي، ومن جهة أخرى هناك حقيقية لا ننكرها، فقد تطوروا في هذا الجانب لكشف أسرار هذه القلاع والمباني، لكن نقول كل ما بذل في الجزائر فهو قليل مقارنة بما تملكه من القلاع والآثار الكبيرة والمدن الموجودة عبر العصور.
قلنا المحافظة على هذا الزخم هي مهمة الجميع من مؤسسات جامعية، مدنية، قانونية والأمنية، ويحتاج لجهد كبير لإماطة اللثام على شيء مدفون في باطن الأرض والمحافظة عليه، لأن الصعوبة لا تكمن في اكتشاف هذا الكنز وإنما كيف نستفيد منه ونحافظ عليه ، مثل اكتشاف البترول قد يكون من السهل الآن اكتشاف البترول، لكن كيف نستفيد من هذا الذهب الأسود الذي أصبح نعمة لكن هناك من يريد آن يحوله إلى نقمة،  لذلك هذه الآثار إذا لم نستفد منها ونوظفها لصالح مجتمعنا فقد يكون وباء علينا.
❊ هل من الممكن أن نقول بأن شخصية الجزائري ما زالت متمسكة بقضايا التراث الإنساني؟
❊❊ حتى لا نتهم الجزائري أو غيره، فالأمة التي لا تملك تاريخ لها هي أمة لقيطة ولا أصول لها، فالجزائري أيضا متعلق بتاريخه عنده بعد وعمق تاريخي كبيرين، ونحتاج إلى نشر هذه الثقافة في أوساط المجتمع والإكثار منها بالتوعية.
هناك جهود مبذولة نوعا ما، من خلال المؤسسات والجمعيات بالإضافة إلى دور الإعلام الذي أصبح يبرز هذه المراكز الأثرية، هناك اهتمام من جهات متعددة لاكتشاف هذه الآثار والمحافظة عليها وتوظيفها في خدمة تاريخنا وبلادنا.
❊ تملك الجزائر مقومات سياحية بما فيها تعدد المواقع الأثرية، فما الذي حال دون النهوض بالقطاع السياحي الأثري؟
❊❊ الجزائر فسيفساء  طبيعية، فيها كل مظاهر الجمال  بدءا بالصحراء إلى جبال وهضاب وأودية وحقول غابية، إلى حقول زراعية وسواحل بحرية وأيضا حقول أثرية، إن صح التعبير، بإمكان الجزائر أن تنهض بما تملكه من مواقع أثرية ذات أهمية المحيطة بطبيعة خلابة من حمامات طبيعية ومختلف التضاريس، وبإمكانها أن تلعب دورا في السياحة والاستفادة منها، فنجد دول عديدة لا توجد لديهم مظاهر كثيرة للسياحة وبجهدهم وفكرهم ووعيهم استطاعوا أن يحولوا هذه الأماكن إلى مراكز تجارية هامة من صحاري لجنات غناء.
❊ برأيك ما الطريقة الأنجع للاستثمار في هذا الإرث الإنساني؟
❊❊ هو الاستثمار في الإنسان بالدرجة الأولى الذي يستطيع بعد ذلك أن يفتح مشاريع استثمارية بتقبله ووعيه، بالمحافظة على هذه الأماكن بما فيها البيئة لأنها جزء منه وهو منها، بأن نعطيها جمالا ونجذب لها السياح، كل هذا يحتاج للتوعية.
هناك مناطق سياحية رائعة، لكن لم نستفد من هذه النعمة ويحتاج منا للوعي وروح حسن استقبال الزوار، وإلى التعامل مع الطبيعة والمحافظة عليها فأصبحنا، وأعوذ باللّه، الآن من “البريك” إلى “الكليك”، ومدلول “البريك” من الجدران، و«الكليك “ عبارة عن الزر من التطور التكنولوجي وهو الكومبيوتر، لقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا}، فعلينا أن ننظر للطبيعة لتتوسع مداركنا ومعارفنا، وجب علينا أن نستفيد من طبيعتنا وهذا ليس بعيدا على الجزائري الذي حافظ على شخصيته عبر العصور رغم ما تعرض له خلال الحقبات الكبيرة من الاستعمار والاستغلال والهزات، ورغم ذلك فالجزائر حرة، لكن وجب عليها أن نواكب التطور ونسير في الركب، مع إعطاء صورة حية وصريحة واضحة للأجيال لكي يحافظ على تراثه وارثه المادي والمعنوي، وتبقى دائما الجزائر تحتاج لمن يستثمر في الإنسان أكثر لكي يستثمر أكثر في هذا المكنوز أو الكنز الموجود في أرضنا الواسعة والجميلة.
❊ ما مدى تقبل الطلبة لفكرة دراسة التراث؟
❊❊ هناك أقسام ودارسين لعلم الآثار في الجزائر، لكن عموما فهذا التاريخ القديم بالدرجة الأولى وجب التعامل فيه مع الحجارة، ومع مصنوعات قديمة، تحتاج أن يحدد للطلبة هذه الأمور، وهذا ببساطة يتم عن طريق الاستفادة من الوسائل الحديثة، بالإضافة إلى الخرجات الميدانية التي تبرز ذلك واطلاعهم على دراسات الآخرين في دراسة الآثار.
علم التاريخ وعلم الآثار من العلوم الحية وللأسف الإقبال على هاته العلوم ليس في مستوى الطموح، لعوامل متعددة لأنه تعتمد في دراستها بالواقع بحضور الصورة والصوت، باستخدام الوسائل المتطورة من التكنولوجيا الحديثة مثل الكربون المشع لمعرفة الأزمنة والأعمار واكتشاف تاريخ المنطقة، كذلك تحتاج لدراسة اللغات المتعددة والتعامل مع هذا الفن الذي يحتاج للتعمق أكثر  وإلى اللغات القديمة إذا كانت متعلقة باللاتينية، وبحرف التفيناغ الذي وجدت بتاريخنا الإسلامي.
❊ ما هو حجم خطورة ظاهرة المتجارة بالآثار؟
❊ ❊ سرقة الآثار أصبحت من الأخلاق الذميمة، فكيف للإنسان أن يسرق منزله من أجل أشياء لا تسمنه ولا تغنيه، فسرقة الآثار من الأشياء التي جرمها القانون وعاقب عليها كثيرا، لهذا أقول السارق يحتاج لردع كبير لا يقل خطورة على المخدرات والآفات الخطيرة لأنه يسرق تاريخ أمة، فقد وجدت ترسانة من القوانين وأنشأت الدولة مؤسسات جمعت تلك الآثار من متاحف قديمة  ومتاحف المجاهد، فيها بقايا كل الآثار التي استعملها المجاهدون في ثورتنا، وهذا يعتبر شيئا مهما للمحافظة على الأشياء المادية ونحافظ عليها بتصويرها وتبليغها للعالم.
❊❊ ما المراجع التي تستعين بها في بحوثك عند دراسة التاريخ؟
❊❊ في حقيقة الأمر، هناك مصادر تتكلم عن الآثار لعلماء قدماء، لكنها تحتاج لمعرفة جميع اللغات، وأكثر المصادر غربية وأوروبية، فعندما احتلت فرنسا الجزائر اهتمت  بهذا الجانب ولا نقول العناوين بل أقول فقط الدراسات، وهناك أيضا دراسات جزائرية حاليا تحتاج لتطوير أكثر.
  ❊ ما الذي جعلك تهتم بعلم الآثار؟
❊❊ يعتبر إحدى الآليات والوسائل لنصل للحقيقة ولو نسبيا، فلا غنى عن هذه الآثار والمصادر، ولكن المصادر والتراث المادي له تأثير كبير في الكتابة التاريخية، لذلك فاهتمامي فيه جانب يذكرني بالتاريخ الماضي، ولما وصلت إليه الحضارات فيه جانب من دراسة الحاضر، كذلك السياحة التي تعتبر ركيزة أساسية في هذا الميدان.
❊ يبحث الكاتب عن صعوبات دراسة اللغات، فيبسط قراءة نصوصها على اختلاف لهجاتها، ما المنهج الذي يتبع لتفتح تلك الأبواب التي تطل على حضارة قدمت الكثير للإنسانية؟
❊❊ دارس الآثار يجب أن يعرف اللغات القديمة التي كتبت بها المصادر التي تناولت هذا الميدان، اللغات اللاتينية، الفارسية، التركية، فهذا طبعا يتطلب منا الاهتمام باللغات لأنها تعتبر مفتاح ونافذة للتطلع على الحضارات  القديمة والحديثة والمستقبلية..
❊ نسمع بين الحين والآخر عدة عمليات لاسترداد الآثار المسروقة، برأيك كيف يتم ذلك؟
❊❊ السلطات على دراية كبيرة بهذا الشأن وفي كيفية استرجاع هذه الكنوز.
هناك جهود مبذولة في هذا الخصوص، متمثلة في الرقابة والجانب الأمني تحتاج كذلك للتوعية وثقافة واسعة من قبل المجتمع للحفاظ على هذه الآثار، لكي لا تطالها الأيادي الآثمة وشرائها بأثمان بخسة، وتهجيرها وتسويقها لدى شركات ومؤسسات سعى لجمع عدد كبير منها دون معرفة مصدرها وكيفية المحافظة عليها، هناك قوانين حقوق الملكية ، فالقانون الدولي والوطني يجرم سرقة الآثار لأنها ملك للأمة التي وجدت بها .
❊ هل تنصحون بنشر المقالات والصور الأثرية عبر المواقع الالكترونية للتعريف بتلك الموروثات؟
❊❊ الشبكة العنكبوتية والاتصال التكنولوجي من الوسائل الحديثة التي تتعامل معها الدول المتقدمةبشكل كبير، كذلك هناك شعوب لا تستطيع زيارة منطقة ما، ومن خلال تحميل هذه المواقع على الشبكة العنكبوتية نستطيع توصيل الصورة لنفتح بعد ذلك باب الزيارات والدراسة.
وأصبحت الدول تصنف على أساس ما تحمله من معلومات من بحوث وصور ودراسات ومواقع أثرية وطبيعية ومن إنتاج صناعي وزراعي، كلها يتم تحميلها في إحدى المواقع.
ورغم ذلك يبقى الاتصال المباشر مهما جدا فالصورة تعبيرها أقل من الحضور.