على طول العقود والأزمنة الماضية، كان النّاس يغيّرون مواقع عيشهم ويتنقّلون من بلد إلى آخر دون أن يثير الأمر إهتماما أو إشكالا، وكانت الهجرة فعلا طبيعيّا مكّن من تعمير قارات لم تكن قد اكتشفت بعد، لكن عندما يشهد بحر مثل المتوسط زحمة لزوارق الموت المحمّلة بمئات الآلاف من المهاجرين السرّيين الذين يفرّون من الصّراعات والأزمات والفقر، فذاك بالفعل يشكّل معضلة كبيرة ويعكس واقعا مريرا لشعوب كثيرة أرغمتها ظروفها القاهرة على ركوب مخاطر البحر في اتجاه الشمال بحثا عن أمن افتقدته ومنصب شغل أصبح عملة نادرة في بلدانها.
لا شكّ أن سنة ٢٠١٥ ستسجّل في التاريخ كسنة للهجرة السرّية، إذ تكدّست شواطئ القارة العجوز بجموع الرّجال والنساء والأطفال وشهدنا عوائل بأكملها تجازف بحياة صغارها في سبيل بلوغ جنّة الشمال، ووجد العالم نفسه أمام مشكلة إنسانية خطيرة، حاولت أوروبا محاصرتها في البداية، لكنّها بعد مدّة وجدت أنّها تحوّلت إلى حبل يلتفّ حول أعناق أنظمتها التي أخذت مواقعها تتراجع مقابل تقدّم اليمين المتطرّف مستفيدا من النقمة الشعبية المتنامية ضدّ المهاجرين الذين أصبحت شعوب أوروبا تراهم خطرا أمنيا زاحفا، وعبئا اقتصاديا لا يحتمل.
لم تغلق أوروبا في البداية أبوابها في وجه المتزاحمين أمام شواطئها وحدودها، خاصة وجلّهم فرّوا إليها من بطش الحروب وإرهاب «داعش» واعتقدت بأن استقبالهم واجب أخلاقي لكن مع مرور الأيّام والأشهر والأعوام، تضاعفت أعداد المهاجرين واللاّجئين الذين أصبحوا يأتون من كلّ مكان، وبات جليّا أن الأمر زاد عن حدّه وأوروبا لا يمكن أن تتحمّله، وبدأت الظاهرة تخلق أزمة عميقة وشرخا يتهدّد بنية الاتحاد الأروبي، وهنا قرّر قادة القارة العجوز تغيير تعاملهم مع ملفّ المهجارين بصفة جذريّة، وبدأوا في صياغة حلول، هي في واقع الأمر مجرّد مسكّنات لم تبلغ درجة العلاج الشافي لهذه الظاهرة المتنامية.
لقد قرّرت أوروبا إعادة المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم على الأقل التي تعيش استقرارا أمنيا، كما أخذت تبحث عن دول ثالثة تستقبل أولائك الذين لا يمكن إرجاعهم إلى بلدانهم الأصلية بسبب ما تعيشه من توتّرات واضطرابات مقابل منحها مبالغ مالية، وقد قبلت تركيا هذا الاتفاق، ورفضته دول شمال أفريقيا لأنه يعكس بوضوح أنانية القارة العجوز التي لا يهمّها في البداية والنهاية غير مصالحها فهي تريد أن تلقي بالعبء على بلدان شمال افريقيا لتحوّلها إلى دركي يمنع إبحار المهاجرين نحو الشمال حتى وإن كان بإطلاق الرّصاص عليهم وقتلهم كما فعل المغرب قبل أسابيع.
ولو نظرت أوروبا إلى عمق مشكلة الهجرة السرية، لأدركت بأنّ لها نصيب في تفاقمها، فهي من شجّع على الزجّ بسوريا في متاهة الحرب، ومن حدودها خرج ما يسمى المقاتلون الأجانب الذين شكّلوا داعش الإرهابي، والنتيجة كانت تحويل حياة السّوريين إلى جحيم حقيقي ما أجبرهم على الفرار بجلودهم بحثا عن الأمن والأمان.
وحتى بالنسبة للمهاجرين الأفارقة، فلأوروبا مسؤولية كبيرة في تدهور أوضاعهم الاجتماعية، التي دفعتهم للبحث عن مكان يجدون فيه لقمة العيش، حيث ظلت أوروبا أو لا زالت تستغل ثروات القارة السّمراء لتطوير اقتصادياتها وتحقيق رفاهية شعوبها، كما أنها ظلّت تدعم وتحمي إمّا أنظمة فاسدة أو ضعيفة والنتيجة ظروف انسانية صعبة لا يجد أمامها الشباب الإفريقي غير الفرار.
أوروبا والغرب عموما لا تهمّهما غير مصالحهما أما الشعوب الأخرى فلتذهب إلى الجحيم، لهذا سنقف على عملية انتقاء للاجئين والمهاجرين غير النظاميين، حيث ستحتفظ أوروبا بالذين يشكّلون إضافة لاقتصادها، أما الباقي فستعيدهم من حيث أتوا، وفي إطار هذه السّياسة نرى الأزمة السورية ماضية إلى الحلّ، حيث أصبحت أوروبا تسابق الزمن من أجل تسويتها دون الحديث كما في السابق عن رحيل الأسد، فالمهم اليوم بالنسبة إليها هو التخلّص من عبء اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى بلادهم.
هذه إذن أنانية الكبار الذين يسحقون بنعالهم الصّغار دون رأفة أو شفقة، وما دفاعهم عن حقوق الانسان إلا مجرّد شعارات تحجب وجههم الحقيقي.