طباعة هذه الصفحة

لبنان بين «الوجعين» الاجتماعي والسياسي

خيارات «الحل» تراوح مكانها

جمال أوكيلي

لا يخلو الحراك الشعبي اللبناني من الإشارة إلى الوضع الاجتماعي بتعبير لا يحمل أي تكليف يتجاوز جرعته ليتحوّل إلى مادة مصطنعة ينكشف زيفها فيما بعد، وإنما الدلالات المؤثرة للمصطلحات المستعملة من قبل الحس الجماهري الصادق اختصره أهل بلد الأرز فيما يسمونه بـ «الوجع».
لم نقف على مثل هذا الوصف «الإنساني» في الأمصار العربية الأخرى، التي كانت مدنها مسرحا للمسيرات، في الساحات اللبنانية.. لا يوجد الذهاب والاياب وإنما هناك اعتصامات وغلق الطرق والتجمعات في عين المكان، هذا الأسلوب الاحتجاجي أقلق وأرق كثيرا قوات حفظ الأمن ومكافحة الشغب إلى درجة وقوع حادثة علاء أبو فخر عقب ملاسنات حادة ومشادة عنيفة مع أفراد الجيش أرادوا فتح ممر وإزالة التوتّر لولا تدخل وليد جنبلاط رئيس الحزب الاشتراكي التقدّمي الذي سعى جاهدا من أجل التخفيف من روح النفوس الثائرة والحائرة عندما خاطب الجمع قائلا، «مالنا إلاّ الدولة حاليا» وقد فهم الناس هذه الرسالة فهما عميقا.
«الوجع اللبناني» هو عبارة عن أنين وآهات منبعثة من الأعماق لأناس تخرج من مساحة الشعور بالحاجة إلى واقع اجتماعي أفضل في تكفل صحي، تربوي، وخدماتي وغيره من يوميات هذا الشعب ولدت لديه عقدة كراهية «السياسيين»، بشكل لا يتصوّره أي أحد، ونقصد هنا الجهات المسؤولة على تسيير الشأن العام في لبنان، وهكذا أفرز الحراك مشهدا نادرا في حوليات هذا البلد، كان يتبلور ويتفاعل إلى أن انفجر على الجميع وبلغ سقفا لا يطاق من الاحتقان أثار تخوفات كل الأحرار من انهيار الدولة الوطنية المؤسسة بالدم والدموع منذ الحرب الأهلية وعودتها إلى الانبعاث بفضل اتفاق الطائف.
وأمام كل هذا تعهّد الرئيس ميشال عون بعدم الروجوع إلى أحداث منتصف السبعينات أي الاقتتال بين الطوائف، في حين رسم وزير الدفاع صورة قاتمة عن مستجدات الوضع عندما أشار صراحة إلى وجود مقدمات لما حدث خلال تلك الفترة والمغزى من التصريحين هو الحرص الذي يبديه مسؤولو هذا البلد تجاه ضرورة إبعاد مخاطر التهديدات المحدقة بالوطن جراء الانسدادات الحالية وبقاء المبادرة في الشارع بدلا من صعودها إلى قصر بعبدا.
هذا الوجع الاجتماعي ما يزال ساري المفعول لينتقل إلى «الوجع السياسي» هذه العلاقة التكاملية تحصيل حاصل وحتمية لا مفر منها يلمسها المتتبّعون بقوة ويلاحظونها بإمعان في مسار الأحداث الجارية عندما أصبح عنفوان الشارع يفرض خياراته دون أن يشعر الآخر، وهذا ما يفسّر سرعة انسحاب محمد الصفدي وزير المالية السابق من تولي رئاسة الحكومة، معتبرا بالأمر الصعب والمعقد في الظروف الحالية.. وهكذا تسقط هذه المحاولة السياسية خارج سعد الحريري، وتتهاوى معها كل التفاهات المبدئية التي كانت تريد إحداث طفرة في تقاليد التكليف والتأليف.. والكثير تساءلوا عن هذا الخيار الذي لم يلق الإجماع وشعر الصفدي بأنه وحيد لا يحوز على وسائل المقاومة إذ لم تطله «التهم» من الدوائر العدلية المخوّل لها قانونا بذلك، وإنما أمطره الشارع بمزيد من «الأوصاف» إرتأى أن يترك الجمل بما حمل ويغادر فعاليات هذا المشهد مصاحبا معه فشل المساعي الحميدة المبذولة في هذا الإطار لسدّ الشغور الحالي على مستوى الحكومة.. والأنظار مشدودة إلى سعد.. لكن هل تلبي شروطه؟ بطاقم جهاز تنفيذي بدون سياسييين في الوقت الذي يتحدث فيه عون على صيغة حكومية مناصفة بين السياسيين والتقنوقراط انطلاقا من طبيعة الخريطة الحزبية في لبنان التي لا تسمح بإقصاء المكونات الفاعلة ذات التمثيل الشعبي الواسع يصعب إبقاؤها على الهامش وإحلال محلها «كفاءات» قد لا تستطيع تسيير المرحلة الراهنة بحكم طابعها السياسي  الصافي وعدم قدرتها على تحمل الضغط الخارجي.
وعليه، فالجميع يسعى لغلق الفجوة وتضييق الشرخ بين كل ما هو «سياسي» و»اجتماعي»، وهذا بالبحث عن آليات فعّالة قادرة على مرافقة المطالب والتكفّل بها قدر المستطاع بالعثور على رئيس حكومة جديد، أو دعوة سعد لتولي شؤونها مرة أخرى بعد اعتذاره. وبالتوازي مع هذا الطرح، فإن عون وجد الحريري متردّدا في القيام بهذه المهمة بعد غياب أرضية توافقية بخصوص مطالبه المعروفة ورفض الرئيس اللبناني السير عليها.. تفاديا لطابعها المغامراتي.
هذا هو «الوجع اللبناني بشقّيه».. اليوم الذي سيهدأ آجلا أم عاجلا ويزول رويدا رويدا لتحلّ محلّه إرادة إنقاذ الوطن وحماية الدولة من السقوط الحرّ، ولن يتأتى هذا إلا بتفهم اللبنايين لهذا الأمر.. تبدأ بفتح الطرق وأبواب المصارف، والمدارس، وإزالة الخيم لتطبيع الوضع وعودة الحياة عاديا.