طباعة هذه الصفحة

الأستــاذ ياسـين سعيدي لـ «الشعـب»:

الملف اللّيبي «مختطف» من قوى خارجية تتعمّد إجهاض العملية السلمية

أجرت الحوار: إيمان كافي

 الحـلّ يصنعــــه التوافـــق الداخلــي ويضمنــه الالتـــزام الخارجـــي

 صعوبــة المرحلـة تستعجـل تعيــين مبعـوث أممـي جديــد

مزيد من الانزلاق والانسداد والتّصعيد، هذا باختصار شديد حال الوضع في ليبيا، التي يبدو أن موعد انفراج الأزمة التي تعصف بها منذ تسع سنوات لم يحن بعد، بل على العكس تماما، فكلّ المؤشرات تؤكّد بأن ليل الليبيين مازال طويلا، وطريق السلام مفروشة  بالأشواك وبالعراقيل التي تضعها أطراف خارجية كثيرة تبدي ظاهريا تعاونا ورغبة في إيجاد أرضية للتسوية، لكنها في الواقع تعمل على إجهاض كل مساعي الحل وذلك برفضها الالتزام بأي جهد ميداني لتحقيق الانفراج واستمرارها في تزويد فرقاء الداخل بالسلاح ودفعهم لمواصلة الاقتتال وسفك الدماء  وتدمير البلاد.
«الشعب» تقف مرّة أخرى مع  ياسين سعيدي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد طاهري ببشار، عند تطورات الملف الليبي لتبحث معه عن أبعاد استقالة المبعوث الأممي غسان سلامة وتأثيرها على العملية السياسية، ولتستشف منه نتائج مؤتمر جنيف الأخير وحظوظ الحل السلمي، وأيضا الدور الذي يمكن  أن تقوم به الجزائر لمساعدة الأشقاء اللّيبيين على بلوغ برّ الأمان.

«الشعب»: ما هي قراءتكم للمشهد اللّيبي على ضوء استقالة المبعوث الأممي غسان سلامة؟

الأستاذ ياسين سعيدي: ما يكشف عنه الواقع اللّيبي اليوم يمكن اعتباره أحد مبررات استقالة غسان سلامة، حيث يبدو المشهد السياسي متحركا من خلال مسار جنيف والجهود الديبلوماسية الجزائرية، في حين ميدانيا لازال العنف يسير بمنحى تصاعدي نتيجة لإصرار بعض القوى على استمرار القتال لإحراز مزيد من التقدم الميداني وتحقيق مكاسب سياسية تفاوضية تمكنها من قلب الطاولة على الطرف الآخر في الإنهاء الأحادي للأزمة الليبية وحسمه.

بتصوركم، هل المبررات الصحية التي ساقها سلامة هي الأسباب الحقيقية لاستقالته، أم هناك دوافع أخرى جعلته يرمي المنشفة؟

غسان سلامة غرّد من حسابه على أن استقالته جاءت لدواع صحية، لكن لا أظن أن هذا السبب مقنع كثيرا كما لمحت لذلك في الإجابة السابقة، فالرجل الذي بقي على رأس هذه المهمة لسنتين وثمان أشهر وبذل جهدا كبيرا في دفع عملية السلام، اقتنع اليوم بأنه قد تم خداعه من طرف بعض القوى الدولية التي تبدي تعاونا في إيجاد أرضية للتسوية، لكنها لا تلتزم بدعم أي جهد ميداني لتحقيق ذلك، كما أن الوضع العسكري الذي ازداد سوءا في الأيام الأخيرة نتيجة لارتفاع هجمات قوات حفتر على طرابلس وسيطرته على الموانئ كان بسبب تصرفاتها وضخ شحنة جديدة من الأسلحة للأراضي الليبية، إضافة إلى أن الرجل أصبح يلقى انتقادات متبادلة بين طرفي النزاع حول عدم حياد جهوده وتصريحاته حول المشهد السياسي والعسكري في ليبيا. في النهاية، لا يمكن لرجل ديبلوماسي مثل سلامة الذي خاض تجارب نزاعية كبيرة في العراق وماينمار وغيرها أن يرمي المنشفة لو أحسّ بأن عملية السلام تتحرك ولو ببطء إلى الأمام. أظن أن استقالته ستضع القوى الدولية ومجلس الأمن في حرج كبير أمام الجميع، وأن الملف الليبي أصبح مختطفا من طرف مصالح هذه القوى التي تنسف في كل مرة جهود السلام والتسوية.

الاستقالة تزامنت ودفع عجلة العملية السلمية في جنيف من خلال المسارات الثلاثة العسكري الاقتصادي وأخيرا السياسي، فما هي تداعيات رحيله على جهود التسوية التي لم تثمر حتى الآن؟

الحراك الديبلوماسي الأخير الذي عرفته القضية الليبية ابتداء بلقاء موسكو في 12 جانفي الماضي مرورا بمؤتمر برلين في 19 جانفي وقرار مجلس الأمن 2510 الخاص بوقف توريد الأسلحة كلها لقاءات لم تثمر ما جاءت لأجله خصوصا على الصعيد الميداني، هذا الأمر يعد ارتدادا لمسار جنيف الذي فشل بعده السياسي منذ البداية ولم يحقق أي تقدم يفيد حلحلة الأزمة، خاصة في مجال إحصاء الجماعات الإرهابية في ليبيا، ووقف إطلاق النار ومنع توريد الأسلحة، كل هذا التعثر، لازال يعبر عن عدم توفر مسالك حقيقية وإرادة جماعية لحل الأزمة مما يتطلب إعادة النظر في طبيعة المبادرات التي تطرح في كل مرة دون تقييم قد يفيد في تغيير أو تقويم هذه الجهود التي يبدو أنه يتم نسفها في كل مرة بغرض الإضرار بالملف الليبي بدلا من معالجته.

مواقف اللّيبيين حول قرار المبعوث الأممي تباينت بين متأسف وغير مبال ومرّحب لاعتقاده بأن سلامة فشل في مهمته لكونه لم يفهم لب الأزمة الليبية وبحث عن الحل بعيدا عن الأطراف الخارجية التي تصنعها، ما تعليقكم؟

تباين المواقف حول فشل غسان سلامة في إيجاد تسوية للملف، هو نتيجة للانتقادات التي كان يتعرض لها من طرف الفرقاء الليبيين أثناء أداء مهمته الأممية، فسلامة الذي ركز في تصريحاته كثيرا على الجريمة دون إدانة المجرم كان يتعرض لحملة تشكيك في جهوده وحياده في مواقف كثيرة، لكن بالمقابل هناك أطراف كانت ترى في مكانة الرجل وتقدر جهوده الحثيثة وكثافة المبادرات أمر ايجابي، وهو الذي وصل إلى المنصب بالتوافق بين القوى بعد عدم الاقتناع بعدة شخصيات كانت مرشحة لذلك، أعتقد أن ردود الأفعال المتباينة هي أمر طبيعي، يعبر عن حالة التشرذم والفرقة التي تطبع التوجهات المدعومة والمتداخلة للأطراف الداخلية والقوى الداعمة لها، مما يعبر عن عدم وجود تقارب حقيقي لوجهات النظر وغياب أي ارتياح مقبول في إرادة بعض القوى لحل الأزمة اللّيبية.

ستة مبعوثين رحلوا والأزمة اللّيبية باقية، هل من أمل في حل قريب أم أن الوضع قد ينزلق إلى مزيد من التصعيد العسكري؟

التصعيد العسكري لازال مستمرا وهو الذي يعيق أي تقدم للحل السياسي، فمن غير المعقول أن يتم الحسم السياسي في ظل التصعيد الميداني المتزايد هذه الأيام، ففهم المواقف الدولية تترجمه حالة الميدان الذي يزداد تأزما وتصعيدا لاسيما في ظل تقارير تفيد بوصول شحنات أسلحة جديدة ومتطورة ومقاتلين أجانب إلى ليبيا مما يدل على أن الوضع يبعث على مزيد من القلق والخوف إزاء ما يحصل، أعتقد بأن أولوية تعيين مبعوث جديد في أجل قريب مهم نظرا لصعوبة المرحلة، فقد يحمل المبعوث الجديد خطة تفيد في وضع حل للتردد المقصود من طرف المجتمع الدولي في حل الأزمة، رغم أن المبعوثين السابقين كلهم اتفقوا على محدودية الدعم الأممي لهم من طرف القوى الكبرى ومجلس الأمن لتجسيد وإحلال خطة التسوية والسلام في ليبيا.
من جهة أخرى، لا يمكن الفصل بين ما يحدث شمال سوريا والتصعيد العسكري، اليوم، في ليبيا الذي يراه البعض فرصة للحسم الميداني، بمنطق أولوية الحل العسكري على السياسي، الذي يسمح بفرض منطق ومصالح المتغلب بعيدا عن أي توافق، للأسف هذه الحقيقة موجودة في الإرادة الخفية لبعض الدول أطراف الأزمة في ليبيا.

كيف تقيّمون جهود الجزائر لحلحلة الأزمة اللّيبية وماذا عن مراهنتها على ترقية العمل الإنساني تجاه الأشقاء اللّيبيين؟

الحضور الجزائري في مؤتمر برلين وقبله احتضانها للقاء دول جوار ليبيا مكّن الجزائر من استدراك دورها في فهم الأزمة الليبية والمساعدة في حلها، أظن أن الجزائر تملك جزءا من مفاتيح الحل في القضية الليبية، وقد بدأت بتكثيف جهودها من خلال زيارات وزير الشؤون الخارجية لليبيا وحرصه على لقاء مختلف أطراف الأزمة، وكذا الإنزال الدبلوماسي لوزراء خارجية دول إقليمية بالجزائر كمصر وايطاليا وتركيا بالإضافة إلى زيارة وزير خارجية الكونغو باعتبار الرئيس الكونغولي رئيسا للجنة الإفريقية لمتابعة الأزمة اللبيبة مما يؤكد حرص الاتحاد الإفريقي كذلك على دعم الجهود الجزائرية بهذا الخصوص، كما أن الليبيين يثقون كثيرا في جهود وإرادة الجزائر ومؤمنون بأن أمن ليبيا هو امتداد لأمن الجزائر والمنطقة، لذا تسعى الديبلوماسية الجزائرية لاستثمار هذه الثقة في إيجاد أرضية ليبية للتوافق عبر جمع الرؤى وتقريب وجهات نظر الأطراف الليبية، الشيء الايجابي أن الجزائر تحاول تسويق الحل الليبي النابع من فرقاء الداخل لا من قوى الخارج، وأظن أن اجتماع الجزائر لتجسيد مؤتمر برلين قد كشف عن ترويج الجزائر لهذا الطرح الذي يعد الحلقة المركزية المفقودة في كل الجهود الدولية السابقة.

في تصوركم الأزمة الليبية إلى أين؟

لا تتضح الرؤيا بخصوص سياقات الأزمة الليبية التي تدخل عامها التاسع، لكن ما يمكن قوله أن مسارات مستقبل الأزمة الليبية في ظل تقييم ما تحقق وما يجري الآن لن يخرج عن سياقين بحسب إرادة أطراف الأزمة والفاعلين فيها، أما عن طريق التوافق الليبي بين الأطراف الليبيين وهذا ما نتمناه طبعا وأعتقد أن هذه إرادة ليبية تدعهما بعض القوى الإقليمية كالجزائر وتونس، وأما عن طريق الحسم العسكري الذي تتمسك به بعض القوى وترى فيه المسلك الوحيد لسيطرة حليفها على ليبيا وبالتالي الضمان الأحادي لمصالحها في ليبيا ومن خلالها في المنطقة، وبين هذين السياقين يظهر سيناريو قد تفرزه تطورات المشهد الليبي في حال استنفاذ واجهاض كل الجهود الدولية نحو الدفع بمسار التسوية، ويتمثل في استمرار انهيار الدولة وتحولها إلى دولة فاشلة ومسرح لكل الحركيات غير القانونية لاسيما في ظل السيطرة على الموارد ورهنها في ليبيا.

كلمة أخيرة

ما أوّد قوله في النهاية أن ليبيا لا تحتاج اليوم إلى إدانة أحد أطراف الأزمة أو إرجاع حق لأحد الأطراف على حساب الآخر، ما تحتاجه اليوم إلى احترام أطراف الأزمة الذين قبلوا بالجلوس إلى بعضهم ولهم حضور سياسي وميداني ودعم دولي، علينا القبول بهذا أولا ثم المرور إلى إيجاد حالة من التوافق الداخلي بتقديم التنازلات وجمع التوافقات بهدف بلورة رؤية حقيقية تنطلق من أطراف الأزمة وليس تُفرض عليهم، ثم المرور بعد ذلك إلى البحث عن رغبة دولية كافية وحقيقية لتوفير الضمانات والالتزام بما تم الاتفاق عليه، حقيقة الأزمة الليبية اليوم مختطفة، والبعض يحاول أن يضع المجتمع الدولي أمام حقيقة استنزاف كل طرق الحل الودي كتبرير لقناعته بغير ذلك ضمانا لمصالحه على حساب الشعب الليبي.
في النهاية أتمنى أن تجد الأزمة الليبية طريقا لحل يكون  في صالح ليبيا وبرعاية دولية حقيقية معبرة عن نصرة ليبيا وإنهاء حالة النزاع بها.