طباعة هذه الصفحة

ما بعد الوباء

نظام عالمي قائم على التشاركية والعدالة

حمزة محصول

رغم الأرقام المهولة عن تفشي فيروس كورونا من يوم لآخر، بحيث من غير الممكن معرفة مستوى الذروة، بدأ الحديث عن شكل العالم ما بعد الوباء. الكل يجمع على أنه سيكون مختلفا تماما، وأن أسوأ من الفيروس هو الكساد الاقتصادي المقبل، لكن لا أحد يتحدث عما يجب أن تكون عليه هذه القرية الكونية.

لازال العالم تحت صدمة الفيروس الفتاك، رغم مرور أزيد من أربعة أشهر كاملة على اكتشافه في مدينة ووهان الصينية، أواخر ديسمبر من العام الماضي. لقد تسلل الارتباك والخوف والفوضى في الأداء إلى حكومات الدول الكبرى المسيطرة، دون أن تظهر لحد الآن قدرة على التكيف على الأقل مع الجائحة.
وما عدا الصين، التي تتعافى أسرع من بقية الدول، وتحاول مدّ يد المساعدة بتقاسم المعلومات والخبرة العلمية والطبية والمعدات، لازالت استراتيجية «إبْقَ في المنزل»، هي أنجع ما بيد صناع القرار لمواجهة هذا العدو الذي لا يُرى بالعين المجردة، والذي لا يفرق بين دولة قوية وأخرى فقيرة وبين قائد ومواطن بسيط وبين غني وفقير.
الدروس المستخلصة من وباء كورونا حتى قبل زواله، كثيرة جدا، لعل أهمها أن هذا الفيروس عندما انبعث فجأة وجد العالم خاملا في حالة استهتار قصوى، بحيث لم يكن يخطر على بال أحد أننا معرضون لشيء مماثل.
 لقد وجد فيروس كورونا، كبار العالم على أتم الاستعداد لحرب نووية قد تنشب في أية لحظة، ومستعدون للانقضاض على أية دولة صغيرة غنية بالموارد، وحريصون على استمرار النزاعات والاقتتال الداخلي في كثير من البلدان (عربية خصوصا)، لكنهم في نوم عميق حيال أية هجمة وبائية شبيهة بالطاعون وجائحة الحمى الإسبانية التي حدثت قبل أزيد من قرن.
جاء كورونا، ووجد الصين، أقوى طاقة إنتاجية في العالم تفتقد لأبسط مستلزم طبي «الكمامة»، مطلع فيفري الماضي، وإذ تزامنت تلك الندرة مع عيد رأس السنة الصينية، ودخول أغلب المصانع في عطلة، فإن دول الاتحاد الأوروبي اليوم (فرنسا، إسبانيا، إيطاليا.. الخ) في أمس الحاجة إلى الكمامات والألبسة الطبية الواقية.
أمريكا، القوة الاقتصادية الأولى عالميا، التي تخوض منذ سنوات نزالا شرسا مع الصين على الريادة، وجدت في الملياردير الصيني جاك ما، معينا لها في المعدات والأجهزة اللازمة لمكافحة فيروس كورونا.. فالكل محتاج للمساعدات.
قبل ظهور الوباء في الصين بأشهر، كان كبار العالم يخوضون صراعا دبلوماسيا بشأن التملص من الاتفاقيات النووية، وإطلاق العنان لسباق تسلح أكثر شراسة، لأنهم يؤمنون بالقوة وحدها لاعتلاء العرش، عرش قيادة العالم والترسيخ لقيم وثقافة ونظام اقتصادي أوحد ملزم للجميع، ولا يتحقق ذلك إلا ببناء «القوة المطلقة».
صناعة الرعب بدل الردع، هي ما جعل العالم يقف مرتبكا مذهولا أمام فيروس لا يرى بالعين المجردة وهو يفتك بآلاف الأرواح، ويحيل الملايين على البطالة ويسجن أكثر من 3 ملايير نسمة في بيوتهم، ولا يفي أي من تلك الأسلحة الفتاكة الأسرع من الصوت في مواجهته.
الكل ينتظر نهاية بيولوجية لهذه الحرب الصحية التي تخوضها البلدان المتطورة بنفس أدوات الدول النامية والمتخلفة، في انتظار أن تعلن الأولى إنتاج لقاح تبيعه للثانية. وإلى ذلك الحين يكون الوباء قد تلاشى تحت درجات الحرارة المرتفعة أو بفضل نجاعة الحجر الصحي.

إفلاس

كل ما سبق ذكره، من استهتار للدول بالوباء، يمكن تلخصيه فيما صرح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حينما اتهم خصومه من الديمقراطيين ووسائل الإعلام المعارضة بالوقوف وراء التهويل لوباء «أقل خطرا من الأنفلونزا الموسمية»، قبل أن يجد نفسه ملزما بتسخير كامل صلاحيات الحكومة الفدرالية لمواجهة أشرس خصم يهدد طريقه لولاية رئاسية ثانية.
خمول العالم بهذا الشكل المثير للغرابة، عن الاستعداد لكارثة صحية شاملة، لا يفسره إلا إفلاس النظام العالمي الجديد الذي قام على أنقاض جدار برلين. فلم تفلح الولايات المتحدة الأمريكية، التي استفردت بقيادة العالم عن طريق لعب دور الشرطي القبيح، في جلب الاستقرار للمعمورة.
 لقد خاضت أمريكا كثيرا من الحروب وعمقت الكثير من المآسي والأزمات وحاربت بالوكالة عن دول بعينها مقابل مصالح حيوية ضخمة ووظفت لاعبين فاسدين أشرارا لخوض حروبها نيابة عنها، مسببة مشاعر الغضب والحقد لدى شعوب عديدة أحست بالاستغلال البشع والظلم.
العقد الأخير، كان بمثابة انهيار متسارع لهذا النظام العالمي الجديد، وما حدث من حروب وأزمات وموجات عنف وهجرة غير شرعية وإفلاس اقتصادي وتضاعف الديون السيادية للدول المتقدمة، كان عبارة عن صرخات رفض، بأن القرية الكونية لا تحتمل أن تكون بيد مجموعة ضيقة تعمل على مشروع واحد.
الأزمة الصحية الحالية، أكدت أن القوة القاهرة التي باستطاعتها معاقبة دولة أو مجموعة من الدول بكبسة زر، خرافة، ولا تتماشى أبدا وقيم الإنسانية والسلامة الصحية للبشر وجودة الحياة على الكوكب، ولا تصلح لتكون قائدا للبشرية جمعاء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التوجه نحو إزالة الحدود الجغرافية السيادية للدول مثل هو مدون في مشروع «الحكومة العالمية الواحدة».
وفي كارثة كبرى مماثلة، ظهر أن انكفاء البلدان على ذاتها، والاعتماد على مقوماتها المادية والحضارية والثقافية هو السلاح الأنسب لمواجهة وباء يستطيع أن يفتك بالملايين. وما أنانية بعض الدول (خاصة الأوروبية) في التعامل مع الأزمة إلا حافزا لكل بلد على بناء قدراته الذاتية وعدم الاتكال على الآخرين.
إن عالم ما بعد كورونا، لا يجب أن يبنى على الأحادية والأنانية والاحتكار وقهر الشعوب ونهب مقدراتها، لابد من بناء نظام عالمي يقوم على المشاركة والعدالة والتوافق، لأن الجشع والقوة أثبتا فشلهما على مر السنين.