طباعة هذه الصفحة

الإتحاد الأوروبي ــ الولايات المتحدة

مقارنات غير مجدية وفوارق عميقة

محمد العربي

يحاول كثير من المراقبين في تحاليلهم بشأن تدارك نقائص البناء الأوروبي، تغليب الصيغة الاتحادية التي تمّ تبنّيها، منذ قرنين من الزمن، لبناء الولايات المتحدة الأمريكية والسماح بتطور هذه الأخيرة لتصبح خلال القرن العشرين دولة عظمى.
وإذا كانت الولايات المتحدة موحّدة لغويا واجتماعيا، رغم احتفاظ الكثير من المجموعات المهاجرة إليها بخصوصيات اجتماعية وثقافية معيّنة، إلاّ أنّ الفوارق الاجتماعية والاتنية والثقافية بين البلدان الأوروبية عميقة ولا تسمح في الوقت الراهن بالتوصل إلى الحلول الوسطى، ناهيك عن عدم انسجام الأنظمة السياسية القائمة.
في واقع الأمر لم يجمع بين الأوروبيين سوى الارادة السياسية، وهي حقّا ذات طابع سياسي يتبنّى خيارات الاندماج الاقتصادي التي بفضلها تمّ تجسيد البناء الأوروبي، وهو الأمر الذي تفتقر إليه الأمة العربية، رغم “وحدتها” اللغوية والثقافية، ورغم ما تزخر به من المقوّمات الاقتصادية المتكاملة.
وقد تمّ التطرق في مقال سابق (منشور يوم 9 يناير) إلى العجز الديمقراطي في البناء الأوروبي، خاصة باقتراح رئيس المفوّضية الأوروبية (البرتغالي) جوزي مانويل باروزو انتهاج أسلوب انتخاب ديمقراطي أكثر للبرلمان الأوروبي ولرئيس المفوّضية، وهو أمر سيكون صعبا، لكون كل دولة (وليس فقط كل حزب) ستعمل كما في الماضي، على الحفاظ على المواقع والمكاسب المتحصّل عليها ولن تتنازل عنها.
ويبدو أنّ باروزو يدعو إلى اقتفاء أثر الولايات المتحدة لإفراز محورين، يميني ويساري في أوروبا يتناوبان على غرار تناوب الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أمريكا.
ويعتقد أنّ المسؤول الأول عن مفوضية بروكسل يقفز، بسهولة، على الحقائق السياسية في البلدان الأوروبية وهي تتمثل في الأحزاب المتجذّرة أحيانا استنادا إلى خطوطها الايديولوجية، وهي لا تتردّد عندما تشعر بأي تهديد، عن التلويح بالعودة إلى الدولة الوطنية والانحياز إلى التيارات المتطرّفة في بلدانها.
ومن البديهي أنّ خيار المحورين في أوروبا لايزال بعيد المنال، بدليل أنّ الوزير الأول البريطاني الأسبق طوني بلير يرى ــ وإن كان مرحّبا بفكرة باروزو ظاهريا ــ أنّ بروز قطبين في أوروبا: قطب الديمقراطيين الاجتماعيين من جهة وقطب “أحزاب الشعب” من جهة أخرى سوف تنجرّ عنه مشاكل أكثر من المسائل المزمع حلّها.
في هذا الصدد، يذكّر هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة برنستون الأمريكية أنّ النظام البريطاني القائم على تناوب حزبي المحافظين والعماليين على السلطة في بريطانيا والذي بين قوته وصلاحيته وقبول البريطانيين له، لا يصلح للبلدان الأخرى، نظرا لفشل تجربته في البلدان الافريقية والأسياوية التي استقلت عن التّاج البريطاني، والتي برزت فيها تيارات سياسية منبثقة عن الحركات التحررية ومجموعات تقاسمت الحكم وبقيت رهينة موازين القوى الأولى والواقع العشائري خاصة في إفريقيا وحتى في الهند وباكستان.
فكيف يمكن انتهاج نظام القطبين في البلدان الأوروبية التي لن ترض أحزابها وتياراتها السياسية والفكرية التخلي عن خصوصياتها ومكاسبها، ومواقع ممثليها على مختلف المستويات؟!
ويورد هذا الأستاذ الأمريكي المثال السويسري، قائلا أنّه قد يحتذى في البناء الأوروبي، لكونه نجم في التوفيق بين المجموعات النّاطقة بالفرنسية والألمانية والايطالية، بفعل مرونة تمثيل الأحزاب الكبرى في الحكومة الاتحادية، وهي لا تطمح إلى الفوز بالسلطة، انفراديا، إضافة إلى تناوب الشخصيات على الوزارات والرئاسة، طبعا، مع ترك الخصوصيات الاتنية للهياكل الجهوية ومنظمات المجتمع المدني.
ربّما شكّلت الصيغة السويسرية حلاّ للخروج من الجمود الحالي للإتحاد الأوروبي، إلاّ أنّه قد يؤدّي في نظر بعض المراقبين، إلى إخفاء الحيادية المطلقة على “الحكومة” الأوروبية وهياكلها الاتحادية، نظرا لأنّ “الرئيس القادم ووزرائه” سوف يصبحون نكرة مثل المسؤولين السويسريين الذين لا يعرفهم عامة الناس، فضلا عن إهمالهم من طرف وسائل الإعلام الدولية وعدم ذكرهم إلاّ في حالات نادرة.
ويخلص هارولد جيمس إلى أنّ أوروبا في وضعها الراهن، ليست في حاجة لشخصيات كارزمية قادرة على تحريك الجماهير، بقدر ما أنّها تحتاج لسياسيين يفرضرون احترام خياراتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويستطيعون تطبيقها في عالم معقّد ومتعدّد الأبعاد.
ومهما يكن، يبقى الأوروبيون محكوما عليهم في الآونة الراهنة بالحفاظ على الحد الأدنى الحالي والتمسك بنهج الاندماج، والعمل على تحقيقه والسعي جديا لحل المشاكل المالية والاقتصادية الناجمة عن أزمة 2007 ــ 2008، قبل التوجه إلى “الخيار” الاتحادي الأمريكي الذي لايزال يفصلهم عنه بون شاسع، وهي المشاكل التي تتطلّب سلطة قوية قادرة، على غرار الحكومة الأمريكية، على بلورة حلول حقيقية، بعد التشاور مع القطبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس، مهما كانت الأغلبية، ثم وضعها موضع التنفيذ، ومثل هذه السلطة لا وجود لها في الوقت الراهن في أوروبا، ولا يمكن تشكيلها على المدى المنظور.