طباعة هذه الصفحة

داعش...الطّائفية، القبلية والمذهبية

«سايكس بيكو» جديدة بهندسة عربية

أمين بلعمري

 إنّ التّفجيرات التي استهدفت كنيستي طانطا والإسكندرية بمصر لا يمكن فصلها عن ما يحدث في باقي الدول العربية الأخرى التي عصفت بها رياح «الرّبيع العربي»، والتي تشهد بدورها تنامي ثنائيات مقيتة هدفها ضرب انسجام مجتمعاتها التي تعايشت لقرون، وظل الوطن هو الوعاء الذي تتوقف عنده كل الاعتبارات الأخرى، ولكن يبدو أنّ صوت هذا الأخير قد خفت وارتفع صوت العصبيات الجاهلية، التي أريد لها أن تستيقظ تمهيدا لسايكس بيكو جديد يمسح الدولة الوطنية من الوجود ويقسّمها إلى كيانات لا تتعدى طموحاتها حدود القبيلة، العرق والمذهب.
إنّ الحرب الأهلية اللبنانية لم تشعل فتيلها إلاّ هذه الحسابات الضيّقة التي خلفها الاستعمار التّقليدي كقنابل موقوتة، والكل يتذكّر أنّه لمّا احتدمت المواجهة بين الإخوة المتناحرين لم يكلّف السيد كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي نفسه أكثر من إطلاق مقولته الشّهيرة «أتركوهم ينضجون بدمائهم»، وبعد أكثر من عشر سنوات من الاقتتال الدموي وخراب مالطا وضعت الحرب أوزارها، وتمخّض لبنان آخر يقوم على منطق المحصاصة الطّائفية والمذهبية، كان من آخر آثارها استغراق البرلمان اللبناني سنتين كاملتين من أجل الاتّفاق على اسم رئيس الجمهورية قطع خلالهما اللبنانيون أنفاسهم  خوفا من اشتعال الحرب من جديد.
بعد سنوات قليلة على اندلاع الحرب اللبنانية اندلعت حرب طاحنة أخرى بين العراق وإيران، وهذه المرة كان وقودها ثنائية السنة والشيعة، ولم تنته إلا باستنزاف الدولتين معا وكان المستفيد مرة أخرى الكيان الصّهيوني، كما استفاد من الحرب الأهلية اللبنانية التي طالما صب الزّيت على لهيبها وتمنّى أن لا تتوقّف أبدا.
بعد أحداث ما سمي بالرّبيع العربي بداية من 2011 التي نظرت لها كوندوليزا رايس وبشر به باراك اوباما خلال زيارته التاريخية إلى القاهرة سنة 2009، اندلعت «الثورات» العربية وانتقلت عدواها من دولة الى أخرى بسرعة النار في الهشيم، واستبشر المواطن العربي خيرا بهذا الربيع، الذي رأى فيه المخلص من أنظمة ديكتاتورية عاثت في الأرض فسادا لسنين، ولم تكتف بذلك لتقرّر في آخر المطاف استحداث تقليد جديد يتمثل في توريث السلطة.
وبالفعل سقطت بعض الأنظمة العربية تباعا تحت ضغط الشّارع، الذي وجد نفسه في غمرة الانتشاء بالانتصار يدخل في دوامة العنف والفوضى ليدخل الإرهاب على الخط، وتحوّلت أحلام «الرّبيع العربي» إلى كوابيس مرعبة وطلت الفتنة برأسها ونفخ في نار الطائفية والمذهبية والقبلية، وها هي الدول العربية تجني أشواك هذه الثنائيات كما حدث الأحد في الاعتداءين الدمويين على كنيستي طنطا والإسكندرية ليطل علينا بابا الفاتيكان للتباكي مجدّدا على مسيحيي الشرق، وهو يعلم يقينا أن أولئك القتلة المجرمون ومن يقف وراءهم لم يكن هدفهم الكنيسة كهيكل، ولكن ما تحمله من رمزية للتعايش بين المصريين، وكان الهدف هو ضرب هذا التعايش والانسجام المجتمعي الذي عمّر لآلاف السنين.
بعيدا عن نظرية المؤامرة وما تخلّفه من هواجس ووساوس، فإنّ كل البلدان العربية دون استثناء معنية بسايكس بيكو في طبعته الثانية، وكل بلد سيضربونه من نقطة ضعفه، فأين تغيب الشيعة والسنة سيفتحون ملف الأقباط والمسلمين، كما هو في الحالة المصرية وفي ليبيا سينفخون في نزعة القبيلة، وفي باقي دول المغرب العربي سيلعبون ورقة العرق والهجمات مستمرّة، ولا ينتظرون إلا لحظة استرخاء بسيطة لتحريك أدواتهم الداخلية وتركيب السيناريوهات الخبيثة التي ستقلب الحقائق رأسا على عقب وتترك الحليم حيران، والمشاهد تتحدّث عن نفسها في العراق، سوريا، ليبيا اليمن ومصر كذلك، على الكل انتظار الدور لأنّه لن تكون هناك معاملات تفضيلية ولا استثناء كما يتوهّم البعض.