طباعة هذه الصفحة

 الدكتور عبد الرحمان مبتول يغوص في واقع ومستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية :

العلاقات الدولية الجديدة تبنى على شبكات ومنظمات بإقحام المؤسسات والمجتمع المدني

اجرى الحوار: سعيد بن عياد

أقترح إنشاء جامعة أورومغاربية ومركز ثقافي للشباب المتوسطي لمزج الثقافات والحوار

 تعاون مشترك يقوم على قاعدة رابح رابح بعيدا عن الأنانية والهيمنة وحيازة رؤية مشتركة
 يمكن للجزائر أن تتجاوز الصعوبــــــات وتكون عنصرا نشيطـا في منطقـــة المتوسط وإفريقيــــــا

يتناول الدكتور عبد الرحمان مبتول في هذا الحوار التحليلي واقع ومستقبل العلاقات بين الجزائر وفرنسا بعد انتخاب ايمانويل ماكرون رئيسا جديدا لفرنسا، مبرزا اقوى المؤشرات وجوانب الضعف في معادلة التعاون بين البلدين ليصل الى قناعة بأن الجزائر التي لديها امكانيات تجاوز الظرف الراهن وفرنسا التي رفضت السقوط في قبضة اليمين المتطرف يوفران طرفي معادلة متوازنة لبناء جسور تعاون ثنائي مفتوح على الفضاء الأوروبي والمغاربي والافريقي والمتوسطي وذلك من خلال إرساء شبكات تنشط في الاتجاهين تسمح لدور اكبر للمؤسسات والمجتمع المدني في تنمية حوار الحضارات والرفع من المبادلات ويدعو في هذا الصدد الى انشاء مؤسسات جامعية وبنكية مشتركة واسعة التمثيل من المنطقتين المغاربية والاوروبية تشمل الابعاد الانسانية الفضاء المتوسطي. وهذا مضمون الحوار التحليلي.
 
الشعب: انتخبت فرنسا يوم 7 ماي 2017، ايمانويل ماكرون رئيسا جديدا لها، وهو يعرف جيدا الجزائر ويمتاز بالحوار ويعي الرهانات الجديدة في العالم. ما هي قراءتك لهذا التطور؟
دكتور عبد الرحمان مبتول: يجب ادراك حقيقة ان العلاقات الدولية الجديدة لم تعد تبنى على علاقات شخصية لرؤساء الدول، انما على شبكات ومنظمات لا مركزية من خلال اقحام المؤسسات والمجتمع المدني الذين يمكنهم تشجيع التعاون والحوار بين الثقافات والتسامح وانسجام بين الشرق والغرب. إن الانغلاق على الذات امر خطير، الأمر الذي يولد العنف ولذلك ينبغي من خلال قراءة الاحداث التفكير لتفادي تصادم الأديان التي ساهمت جميعها في رفاهية الحضارات. ان العلاقات المستقبلية بين الجزائر وفرنسا يجب ان تهتم بالفضاء الأورومغاربي وعامة الفضاء الأورومتوسطي، ويمكن لبلدينا ان يكونا عامل اعطاء ديناميكية للتلاؤم مع التحولات العالمية وذلك بتجاوز الشوفينية الضيقة في وقت يتحدّد فيه مفهوم الوطنية الحقيقية كطاقة لمضاعفة معا مستوى المعيشة لشعوبنا عن طريق مساهمتنا في القيمة المضافة العالمية.
 ان العالم اليوم يتميز بالتبعية والترابط، لكن هذا لا يعني نهاية دور الدولة انما الفصل بين السياسي والاقتصادي. واعتقد في ضوء التحليل ان تكثيف التعاون بين الجزائر وفرنسا دون نسيان التعاون بين الجزائر وامريكا ومع البلدان الصاعدة خاصة الصين، اليابان، الهند، البرازيل، تركيا، كوريا الجنوبية وروسييا... الخ وعموما بين اوروبا والمغرب العربي يكون قائما على تنمية مشتركة حقيقية وشراكة مع ادخال الاستثمار المباشر، مما يسمح بتغيير الممارسات البيروقراطية الريعية وإدراجها في افق ديناميكية تعود بالفائدة على سكان المنطقة من اجل جعل حوض المتوسط حوض سلام ورفاهية. لذلك يمكن لهذا الفضاء المتوسطي أن يتحوّل الى مجال لإنشاء شبكات تسمح بالتواصل مع ثقافات بعيدة من خلال تشجيع الانسجام بين الشرق والغرب.
 ان المنطقتين المغاربية وأوروبا تمثلان تجربة آلاف السنين من الانفتاح على اللاتينية والعالم العربي مع روابط طبيعية وتحملان ثقافة وتأثير انغلوسكسوني. ومن الضروري ان تُطوّر اوروبا كافة العمليات التي يمكن تنفيذها لإنجاز التوازنات المرجوة داخل هذا الفضاء. في الواقع إحداث فضاءات جهوية اقتصادية ضعيفة هو مرحلة ملاءمة هيكلية ضمن الاقتصاد العالمي من اجل تشجيع الديمقراطية السياسية، واقتصاد سوق تنافسي انساني الى جانب النقاشات المتعارضة في الأفكار من خلال نشاطات اجتماعية وثقافية لمكافحة التطرّف والعنصرية وتجسيد أعمال مشتركة دون نسيان أبدا ان المؤسسات لا يحكمها سوى الربح. لذلك من المهم إيلاء أهمية لجانب التربية، ذلك ان الانسان المفكر والمبدع يجب ان يكون مستقبلا المستفيد والعنصر الرئيسي لمسار التنمية. ومن اجل هذا اقترح انشاء جامعة اورومغاربية ومركز ثقافي للشباب المتوسطي كأداة لمزج متبادل للثقافات لتجسيد الحوار المدعم من اجل تفادي الأحكام المسبقة والنزاعات مصدر التوترات غير المفيدة وكذا بنك مركزي اورومتوسطي لتشجيع المبادلات. ان الجزائر وفرنسا يمكنهما تشجيع احداث هذه الهياكل المنشطة.
 تؤكد الجزائر في كل مرة أنها لا ينبغي اعتبارها سوقا وتدعو إلى بناء شراكة متبادلة المصالح، ما هي طبيعة التعاون المطلوب في الأفق بين البلدين؟
 في هذا الظرف، ينبغي ايجاد مقاربة واقعية لشراكة متبادلة بين الجزائر وفرنسا اخذا في الحسبان الثورة الرابعة الاقتصادية العالمية. اننا نعيش على الصعيد العالمي من تطور تراكم الماضي قائم على رؤية مادية صرفة تخضع لتنظيمات هيكلية صارمة الى تطوّر نمط لتركم جديد يرتكز على التحكم في المعرفة والتكنوولجيات الجديدة ومنظمات مرنة في شكل شبكات مثل الشبكة العنكبويتة عبر العالم. ومثلما يشير اليه الصديق جان لوي غيو رئيس معهد الاستشراف الاقتصادي للمتوسط بباريس يجب ادراك انه في فائدة الفرنسيين والجزائريين وعامة المغاربيين والأوروبيين وكل شعوب جنوب المتوسط فإن حدود السوق المشتركة المستقبلية وحدود «شنغن» للغد وحدود الحماية الاجتماعية للغد وحدود المستلزمات البيئية للغد يجب ان تكون في جنوب المغرب، وجنوب تونس والجزائر وشرقا لبنان، سوريا والاردن وتركيا مرورا بسلم دائم في الشرق الأوسط، حيث كان للشعوب اليهودية والعربية تاريخا لآلاف السنين من التعايش السلمي. ومن زاوية اقتصادية بأكثر دقة فإن الجزائر وفرنسا تقدمان كل القدرات والفرص لترقية نشاطات متنوعة ويمكن لهذه التجربة ان تكون مثالا لهذه الشراكة الاجمالية التي اصبحت محورا مساعدا لإعادة التوازن في جنوب اوروبا من خلال تكثيف وتوطيد الروابط والتبادلات تحت اشكال مختلفة.
 فيما يخص حصيلة التجارة الخارجية للجزائر في 2016، فإن بلدان الاتحاد الأوروبي هي اهم شركاء الجزائر وفقا لمعادلة تشمل 47,47 بالمائة واردات و57,95 بالمائة صادرات. ونسجل داخل هذه المنطقة الاقتصادية أن أهم زبون هي ايطاليا التي تمتص اكثر من 16,55 بالمائة من المبيعات للخارج تليها اسبانيا بـ 12,33 بالمائة وفرنسا بـ 11,05 بالمائة. وبالنسبة لأهم الممونين تحتل فرنسا المركز الأول لبلدان الاتحاد الاوروبي بـ 10,15 بالمائة تليها ايطاليا واسبانيا بحصة 9,93 بالمائة و7,69 بالمائة من اجمالي الواردات. وخلال الشهرين الأولين من 2017 تحولت ايطاليا الى الزبون الرئيسي بحصة 17,73 من المبيعات الجزائرية للخارج تليها اسبانيا بـ 15,14 بالمائة وفرنسا بـ 12,63 بالمائة. والصين التي تمثل اهم ممون لنا خلال الشهرين الأولين من 2017 صدّرت 20,21 بالمائة من وارداتنا تليها فرنسا بـ 8,17 بالمائة وايطاليا بـ 6,68 بالمائة، وتبقى فرنسا اول مستثمر خارج المحروقات حيث يمكن تكثيف المبادلات بين البلدين في كل المجالات مثل الفلاحة، الصناعة، الخدمات، السياحة، التعليم، دون اغفال التعاون في المجال العسكري حيث يمكن ان تكون الجزائرعنصرا نشيطا مثلما تظهره جهودها من أجل استقرار المنطقة. ولا ينبغي تجاهل عدد المقيمين بفرنسا من اصل جزائري ليتعدى 4 ملايين منهم 2 مليون مزدوجي الجنسية، ومهما كان العدد فإن الجالية عنصر اساسي للتقارب بين الجزائر وفرنسا لكونها تتوفر على قدرات ثقافية واقتصادية ومالية، وعليه، فإن ترقية العلاقات بين الجزائر وجاليتها المغتربة يجب ان تجنّد من خلال مبادرات كافة الأطراف المعنية من حكومة وبعثات دبلوماسية وجامعات ومقاولين والمجتمع.
ما هي قراءتك لمعالم الوضع الذي تكون عليه بلادنا في ضوء المؤشرات المحلية والعالمية الراهنة؟
 إن العولمة عنصر  ايجابي للبشرية شريطة إدراج العلاقات الاجتماعية وعدم اعتمادها فقط مجرد علاقات تجارية وذلك بإقامة تجانس بين الفضاء الحقيقي والفضاء النقدي من جانب وبين الديناميكية الاقتصادية والديناميكية الاجتماعية من جانب آخر. وفي زمن التوترات الجيواستراتيجية على مستوى المنطقة، خاصة مع الإرهاب، فإن تدعيم التكتلات الكبرى، رهانات العولمة، تقارب بين بلدينا هو اكثر من ضروري من اجل تكثيف التعاون بين فرنسا والجزائر عبر اوروبا. غير أن الأجانب لا ينجزون الاصلاحات بدلنا، لذلك فإن الجزائر لن تكون سوى تلك التي يريدها الجزائريون والجزائريات بافتراض ان الاصلاحات الهيكلية الضروروية تتم إذا ارادت تفادي تهميشها والعودة الى صندوق النقد الدولي افامي» بين 2018 / 2019، ويمكن للجزائر ان تتجاوز الصعوبات الحالية وتكون عنصرا نشيطا في منطقة المتوسط وافريقيا. ويجب تفادي كل رؤية تشاؤمية تجاه الجزائر، لأن الوضعية اليوم تختلف عن تلك التي حصلت في 1986 على اعتبار ان المديوينة الخارجية حاليا اقل من 4 ملايير دولار مع احتياطي للصرف يبلغ 109 ملايير دولار الى 1 فيفري 2017، موفرا مرحلة اريحية لـ 3 سنوات قادمة. للجزائر القدرة على الخروج من الوضع الحالي، غير ان نجاح الشراكة الصناعية الوطنية والدولية غير ممكنة التحقيق بدون حوكمة مركزية ومحلية متجدّدة مع رؤية منسجمة ترتكز على اصلاحات هيكلية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومنها السوق المالية، سوق العقار وسوق العمل وبالأخص اصلاح نظام التعليم والتربية الذي يعد العمود الفقري لكل مسار للتنمية في فجر الثورة التكنولوجية الرابعة.
وعليه، فإن التكتيكات يجب أن تندرج في اطار الوظيفة والهدف الاستراتيجي المتمثل في تحقيق اقصى الرفاهية الاجتماعية لكل الجزائريين. ان الهدف بالنسبة للجزائر القيام بإصلاحات هيكلية تتطلّب جبهة عريضة اجتماعية داخلية للتجنيد مفتوحة لكل الحساسيات في مواجهة مختلف التحديات الجديدة التي تنتظر بلدنا من أجل السمو به كبلد ناشئ في المديين المتوسط والطويل. ولذلك فإن المبادرة البيروقراطية يجب أن تعوض بالمبادرة العملية الاقتصادية مع تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية الايجابية.
وفي الخلاصة، ان تكثيف التعاون ليس ممكنا الا اذا كانت للجزائر وفرنسا مقاربة واقعية للتعاون المشترك يقوم على قاعدة رابح رابح بعيدا عن الأنانية وروح الهيمنة وحيازة رؤية مشتركة لمستقبلهما. ان الجزائر وفرنسا عنصران لا يمكن تجاوزهما للاستقرار، وكل تهديد لاستقرار الجزائر يكون له انعكاسات وتداعيات جيواستراتيجية سلبية على مجمل منطقة المتوسط وافريقيا مثلما اشار اليه بقوة في حوار لجريدة هيرالد تريبيون الامريكية الصادر في 28 ديسمبر 2016. وبالطبع مقابل تعميق دولة القانون ودمقرطة المجتمع واعادة توجيه سياستها الاقتصادية من اجل انجاز تنمية مستدامة. ان التوترات الراهنة عابرة وفقا لما لدي من معلومات مستقاة من شخصيات هامة فرنسية. ويتعلّق الأمر بالمبادرة معا في اطار الاحترام المتبادل وفي هذا الاطار يجب ان تدخل شراكة رابح رابح بين الجزائر وفرنسا بعيدا عن كل احكما مسبقة او رغبة هيمنة.