طباعة هذه الصفحة

بين إيران، كوريا الشمالية والولايات المتحدة

رفض سياسة الإملاءات ولعب دور «دركي العالم»

جمال أوكيلي

تواجه إيران وكوريا الشمالية ضغطا دوليا غير مسبوق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية جرّاء التقدم الهائل في الصناعة النووية، لم يرق تلك البلدان التي تطالبها بالتوقف الفوري عن المضي قدما في تحقيق المزيد من النجاحات في التحكم الدقيق في تكنولوجيات هذا القطاع الحيوي.
واختارت الإدارة الأمريكية إسترتيجية التوازي في مخاطبة إيران وكوريا الشمالية مستعملة المرونة مع الأولى والتشدّد مع الثانية إلى درجة التلاسنات بين الزعيم الكوري الشمالي والرئيس ترامب.
وهذا في حدّ ذاته دليل واضح على أن النزاع أعمق مما نتصوره عندما يسعى البعض إلى تجريد بلدين من حقيهما في امتلاك ناصية العلم، وإعادة عدّدها إلى نقطة الصفر، ذلك ما ترفضه رفضا مطلقا وحتى إن تطلّب الأمر الدخول في مواجهات علنية وهذا ما هو السائد في كوريا الشمالية في حين أن إيران تستند إلى الاتفاق المبرم مع المجموعة الغربية في تعاملها معهم عندما تثار ثائرة هذه الأطراف وتصل إلى نقطة التشبّع.
مؤشرات التنصل
المرونة مع إيران تعني بذلك أن الحديث لا يتجاوز مضمون مواد الاتفاق، هل احترمت أم لم تحترم؟ وتأتي دائما عندما تشعر إسرائيل بالقلق بالوجود الإيراني في سوريا والنشاط الحربي لحزب الله ففي كل مرة تقصف موقعا تعتقد بأنه ورشة لصناعة الصواريخ.
لابد وأن يأتي الضغط من جهة أخرى وليس في هذا السياق أحسن من اللعب في أرضية الاتفاق النووي لتوقيف كل ما يقوم به ذلك في المنطقة وقد وصف ترامب الحضور الإيراني هناك بأوصاف لا تليق، مستعملا مصطلحات جارحة كالإجرام… وهو يطلق العنان لكلامه ضدها تفاجأ فيما بعد بصاروخ باليستي «خورمشاه» وهي رسالة واضحة المعالم إلى هؤلاء من أجل الكفّ عن هذه الممارسات والبقاء في إطار الاتفاق.
الرئيس الأمريكي يريد التخلي عنه، ورفع يديه عن كل التزام بعد أن اتهم الإيرانيين بعدم احترامه، وينتظر منتصف أكتوبر للكشف عن موقفه منه، وهو بذلك يريد إداج إيران ضمن دائرة الاستهداف مستقبلا، بعد أن ما فتئ يلصق بها كل الولايات المتعلقة بالإرهاب، ويعتبرها المسؤولة عما يجري في سوريا والخليج والعراق، وكل التحاليل تؤكد أن المواجهة ستكون مفتوحة بين البلدين عقب مرحلة داعش في بلاد الرافدين.. بعد تأكد الأمريكيين بالتغلغل الإيراني في عمق القرار الخاص بمكافحة الإرهاب وعجزهم في التصدي له، وعرقلة أي مبادرة أمريكية.
هذه الأحادية الأمريكية في الطرح لا تلقى الإجماع في الوسط الأوروبي الذي يتحفّظ عما يصدر عن ترامب.. فقد طالبوا بالتريث وعدم الترسع في إبداء أي موقف حاسم تجاه الاتفاق، مجددين الدعوة إلى إيران قصد الالتزام بما ورد في تلك الوثيقة. ففرنسا اقترحت بأن يكون أي تعديل بعد ٢٠٢٥، وهذا ما يعني بأنه من السابق لآوانه أخذ أي قرار فاصل هذا من وجهة ثانية يتضّح جليا بأن ما قاله الفرنسيون مبني على معلومات وليس أمزجة كما هو الحال بالنسبة للأمريكيين، والتاريخ المحدد هو بمثابة امتحان لإيران.. بوضع إلتزاماتها على المحك...
والدول الأوروبية الموقعة مع إيران لا تخلط الاتفاق مع السياسة الخارجية الإيرانية، ذلك شأن آخر إنما انشغالها ما مدى احترام محتواه، وعدم بلوغ سقف انتاج القنبلة النووية وغيرها من مراح التخصيب.
والتوجه القادم للولايات المتحدة هو إضغاف إيران قدر المستطاع بإبعاد نفوذها عن سوريا والخليج والعراق، ويظهر هذا جليا في أحاديث ترامب المتعدّدة، الذي لا يفرق أبدا بين النووي الإيراني وتلك المجالات الحيوية لهذا البلد في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج.
ويمهّد ترامب لهذه المرحلة بأسلوب التدرّج، وإعداد الأرضية لذلك وفق تجريد نفسه من كل ارتباط يكبّل عمله وهذا ما نسجله اليوم لأن كبار الأمنيين في البنتاغون أبلغوه بأن مرحلة ما بعد داعش بدأت في العراق وسوريا وهي لصالح إيران، فما على الولايات المتحدة إلا استرجاع المبادرة وهذا بالتشويش على القيادة الإيرانية في فضاء آخر يتجلى في النووي اليوم.
والإيرانيون يعلمون ذلك علما يقينا إلا أن العنصر الأمريكي لن يكون له تأثير في سوريا والعراق.
التضييق غير المبرر
ـ التشدد مع كوريا الشمالية: بسرعة البرق انتقل الملف النووي لهذا البلد إلى مجلس الأمن بحثا عن عقوبات صارمة، منها تضييق الخناق على هذا البلد اقتصاديا وتجويع شعبه، وهناك من طالب بغلق صفارة ذلك البلد وتوقيف بعض الصادرات، وغيرها من الإجراءات الظالمة، التي لا علاقة لها بما يحدث، كون كوريا الشمالية لم تُلحق الضرر بأي بلد حتى الولايات المتحدة أو جارتها الجنوبية أو اليابان أو الصين أو روسيا.
كل ما في الأمر أن هذا البلد بصدّد تطوير ترسانته النووية، غير أن أمريكا لم ترض بذلك، كيف وصل هؤلاء إلى هذا المستوى؟ وهم يعانون من «الأزمات» حسب وسائل الإعلام الغربية، هذا ما حزّ في نفسية ترامب الذي فتح جبهة معاداة الرئيس الشاب الكوري الشمالي، بإطلاق عليه أوصاف غير مناسبة كـ
«الرجل الصاروخ» أو «الشخص المجنون» وكلما تحدّث ترامب يطلق الكوريون الشماليين صاروخا كرد عليه.
وما تزال العقوبات تنزل على الكوريين بشكل متواصل في مجلس الأمن ضد أي كيان يتعامل مع هذا البلد، فهل هذا هو الحل؟ لا نعتقد ذلك أبدا من باب أن هناك دولا ارتأت بأن يكون الحوار هو الخيار الوحيد، لأنهاء ما تسميه بالتهديد النووي وهذا ما تعمل عليه روسيا والصين وفرنسا، لأن الهدف المتوخى من ذلك هو الإتيارن بكوريا الشمالية من أجل التوقيع على اتفاق كما كان الشأن بالنسبة لإيران، ويخشون هؤلاء تكبيل أنفسهم بجرة قلم قد تؤدي بهم إلى تدمير كل قدراتهم النووية، وتحل البواخر الأمريكية وغيرها بموانئهم باسم الأمم المتحدة لنقلها إلى أماكن أخرى.. هذا ما يقلق المسؤولين الكوريين الشماليين حاليا، ويجعلهم أكثر تصلبا في أي اقتراح يصنعه الأمريكيون.
وبالرغم من ذلك، فإن الجميع يراهن على الوقت، لعلّ وعسى تصدر بوادر إيجابية عن كوريا الشمالية للشروع في هذا المسعى التفاوضي.
وما تزال الصور عالقة في ذهن الجميع، عندما ابتدع الأمريكيون أكذوبة «سلاح الدمار الشامل» في العراق وكيف بعثوا بمغتشين اتضحوا فيما بعد بأنهم جواسيس إسرائليون دخلوا إلى غاية مراكز البحث العلمي والتكنولوجي منها جامعة «المستنصرية» وأخذوا ما بدا لهم خفيفا وثمينا من ملفات وثائق وصور هل هذا هو التفتيش؟ تحت رعاية المنتظم الدولي.. وعشنا نفس السيناريو في ليبيا عندما تقرّر تفكيك العديد من العتاد النووي ونقله خارج ليبيا، حتى سوريا أزالت مخزوناتها الكيمياوية.
هكذا يسير كبار هذا العالم.. تحركهم مصالحهم الضيقة أو يسعون لحماية كيانات أخرى مثل إسرائيل حتى وإن تطلّب الأمر إقامة الدنيا وهذا ما يحدث في قضايا إيران وكوريا الشمالية بالرغم من أن الرئيس الكوري الجنوبي أبدى استعداده لإجراء حوار مباشر مع كوريا الشمالية بمجرد أن استلم مهامه مؤخرا.
هذا النهج السلمي هو الذي يجب أن يسود في مثل هذه الملفات الشائكة بدلا من منطق التصعيد، الذي سجّل مؤخرا بين هذه الأطراف.. كاد أن يؤدي إلى اندلاع حرب في شبه الجزيرة الكورية لولا صوت العقل الذي حلّ محل تلك القلاقل.
وحاليا، فإن الجميع يبحث عن القنوات اللائقة التي بإمكانها أن تتوصّل إلى إقناع المعنيين بالجلوس إلى مائدة مستديرة لطرح المستجدات الراهنة، حتى وإن ظهر بأن الموضوع صعب الهضم من قبل الكوريين الشماليين الذين يشترطون رفع كل العقوبات عنهم إن أراد هؤلاء إدراجهم في هذا المسعى.. وإلى حدّ اليوم، فإن الشروط لم تجتمع بل تتطلّب المزيد من الوقت لإنضاج هذه الفكرة التي لم يعتد عليها الكوريون الشماليون.