طباعة هذه الصفحة

لم يكن محتجزا أو مختطفا

الحريري ينتظر ترسيم إستقالته

للمرة الثانية على التوالي، يطل سعد الحريري على اللبنانيين لشرح الخلفيات السياسية الكامنة وراء إعلان استقالته عن إدارة شؤون الحكومة، إلا أن ذلك كان عبر شاشة تلفزيون بلده من السعودية.

وبهذا الظهور المنتظر يكون هذا الرجل قد أسقط تلك الأقوال الصادرة عن بعض الفعاليات التي أدرجته ضمن حالات قاسية كالاحتجاز والاختطاف والإقامة الجبرية والمساومة وغيرها من المصطلحات التي ملأت الدنيا في فترة وجيزة جدا أثارت مخاوف اللبنانيين.
ولتبديد هذه الإشاعات سارع الحريري إلى تقديم توضيحات في كل ما قيل عن انتقاله إلى السعودية وما صدر خاصة عن حزب الله المبادر الأول للتعبير عن موقفه مما قرّره رئيس الوزراء اللبناني. وسياسيا، فإن ما ورد على لسانه لم يكن تراجعا عن الاستقالة بقدر ما تمسك بها ولا ينتظر إلا ترسيمها من قبل الرئيس عون في غضون الأيام القادمة ريثما تجتمع شروط العودة إلى بيروت لمناقشة هذا الأمر.
والرسالة القوية التي تستخلص من كلامه هو أن الحريري يرفض رفضا قاطعا للتوازنات الراهنة في المنطقة والتجاذبات الداخلة هذا وحده كفيل بأن يطبق مبدأ النأي بالنفس وهو المفهوم الذي وجد موقعه في الساحة اللبنانية ومن خلال خطاب قادة الرأي.
وهذه التوازنات والتجاذبات موجودة في المنطقة ولا يمكن لأحد أن يلغيها أو يقفز عليها وأطرافها لهم تأثير مباشر في سيرورة الأحداث، لذلك فإن الحريري غير مستعد للتعامل معها أو مسايرتها بعد أن لاحظ بأنها غير منسجمة مع خطه السياسي وقناعته.
لذلك فهو يفضل قدوم شخصية أخرى للتطبيع مع هذه الجهات بدلا منه وهذا هو لبّ الأزمة التي أحدثها الحريري وكانت من ضمن ما شدّد عليه في حديثه ضمنيا.. إدراكا منه بأن هناك محاولات أو بالأحرى مساع من أجل التطبيع مع إيران وسوريا في خضم ما يطرح من مرحلة ما بعد داعش. وهذه الحركية السياسية الجديدة يرفضها الحريري من باب أنها لا تندرج ضمن نسقه المعمول به وتتناقض مع توجهاته الشخصية وفي علاقاته مع حلفائه في أقطار أخرى، وعليه فإنه فضّل ترك هذا المنصب وعدم تحمل تبعات أي تسوية في الأفق.
ونعتقد بأن هذا هو السبب الذي جعل رئيس الوزراء اللبناني يرمي المنشفة وينسحب بشرف من حلبة الصراع الذي بلغ أوجّه، وأصبح يؤرقه تحت تأثير عوامل خارجية أخرى لا تسمح بالسير في خيار التسوية السياسية مع سوريا وإيران. هذا الوضع المرسوم أصبح الحريري لا يطيقه بتاتا ولا يساعده على العمل في خضمه أو في نطاقه وقد رفعه إلى الجهات المسؤولة في لبنان من خلال الذهاب إلى الحل الرديكالي أي الاستقالة من جانب واحد دون استشارة السلم السياسي في هذا البلد حتى وإن كانت هناك خلافات بشأن مسائل معينة.
لذلك، فإن هذه المغادرة لا علاقة لها بتسيير الأعمال بداخل البلد بدليل أن الحريري لم يتناول القضايا الداخلية المرتبطة بالمواطن، وإنما صعّد من سقف هذه التفاعلات في تأثيراتها المباشرة على لبنان وبخاصة ما يجري في سوريا اليوم إن كانت هناك تحركات على مستويات معينة، فإن هناك استباقا وقائيا كي لا تكون خلال إشرافه على هذه الحكومة وترك هذه المهمة لرجل آخر.
وهكذا اتضحت البعض من المعالم في كلام الحريري، منها عدم إساءته لحزب الله وإنما دعاه إلى التخفيف من وطأة الاحتقان في المنطقة ومساعدة لبنان على الخروج من كل هذه الضغوط ليكون فوق كل اعتبار.. وهذا كرد مماثل على نصر الله الذي تفادى التشنجات بعدما أبدى اندهاشه من خرجة الحريري آملا في عودة الرجل إلى بلده وحل تداعيات هذا القرار في لبنان بعيدا عن أي تأثيرات أخرى.
إذا المشكل ليس بين الحريري ونصر الله استنادا إلى تصريحاتهما وإنما حسابات أخرى هي التي أدت إلى فرض هذا المنطق الذي يستدعي العمل وفقه مهما كانت الظروف ولابد من التأكيد هنا بأن انشغالات حزب الله بعيدة كل البعد عما يفكر فيه تيار المستقبل أو مجموعة ١٤ آذار، خاصة بعد التطورات الأخيرة في عرسال، وإبعاد جبهة النصرة إلى البوكمال.. وتأمين حدود هذا البلد من كل التهديدات المحتملة.
والقاسم المشترك اليوم بين اللبنانيين هو تعزيز الجبهة الداخلية وعدم الإفراط فيها مهما كان الأمر واتضح ذلك جليا في التصريحات الأخيرة الصادرة عن الحريري ونصر الله وهذا من خلال سعيهما لعدم تهويل الوضع والاكتفاء بحصر المشكل في نطاق آخر.. لا دخل فيه للبنانيين كما كان الحال في السابق.
وهذا الاجماع موجود أو حاضر في الضمير الجمعي لمواطني هذا البلد وإصرارهم على الحفاظ على زمن البلد مهما كانت الظروف بناءا على التجارب السابقة.. وانتقل هذا الحرص إلى القادة السياسيين الذين يتصرفون بكل مسؤولية تجاه استقرار البلد.. وهذا وحده شكل من أشكال الحصانة الواجب توفرها في الوقت الراهن.
جمال أوكيلي