طباعة هذه الصفحة

وسطــــــــاء الهجـــــــــرة السريــــــة مــوجـودون في كـــــــل مكــــــــــان ويترصّــــــــدون ضحاياهـــــــــــــم

الغربة والحرقة وجهتان لعملة واحدة.. احتراق أمهات بأكبادهن

معسكر: أم الخير .س

 مآســــــــــي المــــــوت تتكـــــــــــــرّر  كــــــــل يــــــــــوم وبتفاصيــــــــــل
   نحو شهرين كاملين من ليلة أمس، تاريخ إقلاع قارب للهجرة السرية من أحد شواطئ أرزيو بوهران نحو اسبانيا، كان على متنه 13 شخصا من مدينة معسكر تتراوح أعمارهم بين 15 و36 سنة، توفيق، فتحي، جيلالي، هم ثلاثة لفظتهم أمواج البحر العاتية، جثة توفيق علقت بشباك صيد في منطقة أرزيو في حالة متقدمة من التعفن والتآكل، وعثر على جثة فتحي والجيلالي بأحد شواطئ العاصمة، ثلاثتهم قضوا نحبهم ليبقى المصير الغامض يواجه المسافرين العشرة ضمن رحلة بائسة فجعت قلوب القريب والبعيد.

”الشعب” وضمن هذا الملف، استطلعت المأساة التي خلّفت حزنا عميقا بمدينة معسكر، من خلال المعلومات التي جمعناها حول ضحايا قارب الموت وهؤلاء الذين مازالوا في عداد المفقودين وبعض الانطباعات لمن عرفهم وعائلاتهم، وحقائق مؤلمة عن الإقلاع الأخير.
قارب أبناء الأحياء الشعبية لمعسكر، أقلع يوم 6 أكتوبر في حدود منتصف الليل على حدّ ما أفشاه أحد أقارب الحراقة من معلومات، ليلتها اتصل أحد الحراقة بأهله ليودعهم، لربّما انتابه ذلك الإحساس البارد بقرب رحيله الأخير، ساعة أو ساعتين بعد إقلاع القارب غمر ذات الحدس الرهيب أهالي الضحايا تقول زهية شقيقة أحد المتوفين في عرض البحر “أحسست أني أختنق، شيء ما كان يخبرني أن أخي الجيلالي أصابه مكروه”، 4 أيام بعد غرق زورق الموت لفظ البحر جثة الجيلالي ورفيق له في الرحلة بشواطئ العاصمة.

شهران على  اختفائهم بعرض البحر.. الحزن لم ينجل بعد

لم تستلم بعد عائلة عربوش الجيلالي جثة ابنهم الموجودة حاليا بمصلحة حفظ الجثث بأحد مستشفيات العاصمة، بعد أزيد من شهر من التعرف عليه من قبل عائلته، وبمرارة تدمي القلب تروي شقيقته الصغرى “زهية “ تقبل أهلها للفاجعة وصبرها على فقدان ابنهم الأوسط البالغ من العمر 34 سنة. تقول زهية، كان الجيلالي يشتغل في مجال التجارة وكان المعيل الوحيد لأسرته المتكونة من 8 أفراد، لم يكن الجيلالي ذو 34 يفكر في المخاطرة باتخاذ البحر المهول سبيلا للهرب من المشاكل التي كان يتعرض لها باستمرار، ولما خطرت الفكرة في باله، أسرّ لشقيقته نيته في الإفلات من المعاناة التي كان يلقاها في سبيل توفير لقمة العيش لأفراد أسرته،
تقول زهية، أن عائلة عربوش لم تستسغ بعد ثقل إجراءات استلام الجثة تحضيرا لدفنها في مسقط رأسه، وتضيف الشقيقة الصغرى أنه لا بد من تسليط أقصى العقوبات على الشبكات التي تسهّل للشباب هذه المغامرات المميتة، وإرغامها على تعويض أسر الضحايا واسترجاع ما استلموه من أموال من الضحايا، أهالي باقي الضحايا يتقاسمون مطلب معاقبة المتسببين في قتل أبنائهم، من بينهم شاب عشريني وجهت له أصابع الاتهام بالنصب على أبنائهم وتحريضهم على الهجرة، الشاب العشريني مجرد وسيط حضّر للرحلة السرية وكان مرشح هو الآخر لركوب قارب الموت لكنه عاد أدراجه، واختفى نهائيا عن الأنظار، على حدّ المعلومات المتوفرة.

يوسف يعدل عن قرار الهجرة السرية والسبب درس قاس تلقاه

أما يوسف، هو أيضا شاب في العشرينيات من العمر، تمكنا بصعوبة رصد رأيه في الظاهرة، لمعرفتنا أنه كان مرشحا للهجرة السرية وقد سلبه أحد الوسطاء من تجار الوهم والموت مبلغا ماليا قدره 50 ألف دينار، أكد لنا يوسف أن القيمة المالية التي يقدمها الحراقة لاستئجار مكان في قوارب الموت تقدر من 150 إلى 200 ألف دينار، أخبرنا أيضا أنه عادة ما يعمل المرشح للهجرة على الاستدانة لتوفير هذا المبلغ، قد يضطر حسبه إلى السرقة أو بيع أغراض البيت من أجهزة كهرومنزلية.
من جهتهم تجار الوهم حسب كلام يوسف يقبضون المبلغ من ما عدده 14 مرشحا في أغلب الأحيان ـ كأقصى عدد يناسب حمولة قارب الموت، زورق تقليدي مزود ببوصلة ومحركين، عادة ما يتعطلان في منتصف الطريق كون طاقة المحركين لا تناسب مسافة الرحلة، يتابع يوسف، الوسطاء لترشيح الشباب للهجرة السرية موجودون بيننا، يقومون بعملهم بتكتم ويعرفون كيف يستقطبون ضحاياهم ويترصدون لهم، وغالبا ما يتبعون أساليب للاحتيال عليهم لمضاعفة المبلغ المقدم، مرة يقولون لنا تم حجز القارب والمحركات من طرف الأمن ومرة يقولون أنها سرقت، وفي كلتا الحالتين نضطر لدفع مبلغ إضافي لشراء محركات وقارب.
يتابع يوسف قائلا بحسرة بالغة، حضرت تشييع أحد الحراقة بعد وصول جثمانه من العاصمة في ساعات متأخرة من الليل، كانت رائحة العفن والموت تعجّ بالمقبرة، الحرقة لم تعد خيارا بالنسبة لي، فالموت بتلك الطريقة صعب جدا.

قوارب ومحركات في متناول الجميع، ماذا لو سلّطت الرقابة على بيعها؟

لم تعد البطالة سببا كافيا للهجرة، كما لم يعد الوازع الديني أو الوطني كافيا لردع الظاهرة أو الحد منها على الأقل، فالجيلالي صاحب 34 سنة كان تاجرا وتوفيق أيضا، محمد كان رياضيا يتطلع لأن يصبح لاعبا محترفا، مؤكدا أيضا كان طباخا ماهرا، فما الذي يحدث ولما يفرّ أبناء الوطن ويختارون الغرق كالنمل مخافة الغرق؟
من خلال ما ذكره يوسف، يبدو الحصول على زورق ومحرك، أسهل مما يكون، فقوارب الموت التي تستعمل في نقل البشر وتهريبهم إلى الضفة الأخرى تباع وتشترى بطرق لا تخضع لأي رقابة أمنية أو إدارية، وإلا كيف يفسر ذلك العدد من القوارب التي تصل أو لا تصل فتلفظ حطامها أمواج البحر؟
تساؤلات عدة ظهرت بتفشي ظاهرة الحرقة، منها تساؤلات طرحها أهالي الضحايا والمفقودين، عن موقع السلطات المحلية بمعسكر وموقفها من المأساة والصدمة التي تلقاها سكان معسكر، فلا أحد حضر عزاء الضحايا ولا أحد تفقد أحوال أسرهم ولو من باب التكافل الاجتماعي والتآزر، تقول زهية التي اتصلت بها “الشعب”، من هول الصدمة لم نع أين نتوجه أو أين نبحث عن جثث أبنائنا، حاصرتنا الإشاعات والأقاويل من كل جانب وأتعبنا انتظار وصول خبر منهم أو عنهم، وتواصل قولها “لا الفتاوى التي تلاحق الحراقة تراعي وضعهم ولا رحمة استجديناها من السلطات العمومية التي مازالت تحتفظ بجثة ابننا”.
ويستمر الوضع على حاله، المئات يفرون في قوارب الموت من واقع أرحم من مصير مجهول، الوضع حتما لا يحتاج إلى حلول اقتصادية كتلك التي وفرت وتوفر باستمرار، الوضع يحتاج إلى التواصل الجاد مع فئة معينة من الشباب بقيت على الهامش لا تثق بقدراتها إلا خارج الوطن، الوضع يحتاج أيضا إلى تسليط الرقابة على نشاط صناعة وصيانة وبيع القوارب والمعدات البحرية،
ويحتاج أن نكون جميعنا أكثر قربا من أبنائنا، لعلّ القرب منهم يملئ ذلك الشرخ العميق ويعيد إليهم الثقة الغائبة.