طباعة هذه الصفحة

أول يومية جزائرية ناطقة بالعربية

«الشعب»...علامة فارقة في بسط السيادة

فتيحة كلواز

عنوان ولد ليكون كبيرا.. مدرسة خرجت مسؤولين بوزن أمة
«11 ديسمبر 1962 يعتبر ذلك يوما مشهودا بالنسبة لإحياء تراثنا الثقافي والاجتماعي، إذ أنه يوم ميلاد اول صحيفة وطنية للجزائر الحرة الناطقة بلغة شعبها صاحب السيادة ألا وهي: صحيفة الشعب»، هو عنوان تُحفظ على صفحاته ذاكرة أمة في اقسام وأبواب عنوانها رحلة انسان يحاول تخليد وجوده بكلمة، «الشعب» عنوان كان حرفه العربي الفارق والدلالة القوية على استرجاع السيادة على الأرض والجسد، في خطوة تتأكد من خلالها أن الإنسان هوية يستميت للحفاظ عليها، «الشعب» رسالة قلم حمل على عاتقه آمال الماضي، حقيقة الحاضر وحلم المستقبل وبين الذكرى، اللحظة والغد يكتب مسيرة شعب ووطن.  
حتى نقلّب صفحات التاريخ المرتبط بظهور أول يومية جزائرية ناطقة باللغة العربية سألنا الأستاذ احمد حمدي عميد كلية الاعلام والاتصال عن نشأتها وعن المناخ العام الذي هيّأ ظهورها في الساحة الإعلامية، ليحدثنا أيضا عن مسيرتها التي بدأت ذات يوم من سنة 1962، ومازالت مستمرة بنفس الرزانة ونفس الصدق رغم المنافسة الشرسة.
«Echaab»... من هنا البداية
أول يومية ناطقة بالعربية في الجزائر هكذا عرّف احمد حمدي جريدة «الشعب»، لأن الاستعمار الفرنسي حارب اللغة الوطنية ومنع وجودها في الساحة الإعلامية لأنها رمز من رموز الهوية الجزائرية التي حاول طمسها منذ 1830، لذلك لم تكن العناوين الصحفية اليومية الموجودة في فترة الاحتلال سوى باللغة الفرنسية اما تلك الناطقة بالعربية فمعظمها تابع للجمعيات كانت إما أسبوعية أو نصف شهرية فاليومية تتطلّب الكثير من الإمكانيات والسرعة في نقل الخبر.
لأن قطاع الاعلام عشية الاستقلال كان في يد «الكولون» الاستعماري مثل سوزيني الذي كان يمتلك «echo d’ alger»، وبيريي ولافون اللذان امتلكا عدة صحف منها «LA dépêche d’ alger» هذه الصحافة الاستعمارية بقيت تصدر بعد الاستقلال تطبيقا لاتفاقيات ايفيان ورغم تغييرها لرسالتها الإعلامية بالاعتراف باستقلال الجزائر الا أن وجودها ارتبط دائما بالوجود الفرنسي في الجزائر لذلك اطلق الجزائريون وكالة الانباء الجزائرية في 1961، رجوع المجاهد الأسبوعي إلى الجزائر من تونس، مع احياء بعض العناوين التي منعها المستعمر من الصدور كـ «  Alger- Républicain » .
وأيقنت قيادة الثورة أهمية التأطير خاصة في غياب إطارات جزائرية متكونة في هذا المجال الأمر الذي جعلها توفد في 1961 مجموعة من الجزائريين ليتوكونوا لفائدة وكالة الانباء الجزائرية والصحافة المكتوبة من هؤلاء مصطفى مومني، محمد بلعيد، محمد مفتاحي وعبود عليوش وتدربوا في جريدة «الاهرام» و»اخبار اليوم» المصريتين.
لذلك، غداة الاستقلال فكّر المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني تأسيس واطلاق جريدة باللغة الرسمية لسدّ الفراغ الإعلامي في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر والذي راهنت فيه فرنسا على عدم قدرة الجزائرييين على بناء دولة بعد خروجها منها، لذلك كان لزاما البدء من نقطة ما، فجاء تكليف صالح لوانشي عضو المجلس الوطني للثورة الجزائرية بإصدار صحيفة يومية جزائرية حيث بادر بإمكانيات بسيطة وإرادة قوية على اصلاح مطبعة «echo d’ alger « التي دمرتها حركة « OAS»، وبالفعل صدر العدد لجريدة «الشعب» في 19 سبتمبر 1962 بعدما صدر في جويلية من نفس السنة بعنوان «le peuple» الذي تحوّل الى «echaab» في سبتمبر وتأخر اصدار النسخة العربية الى 11 ديسمبر 1962، فكان تاريخ اصدار العدد الأول منها بالنسخة العربية مربوطا بمظاهرات كبيرة صدحت بصوت عال في 1961 بنداء الحرية والاستقلال.
قال حمدي في ذات السياق، إن جريدة «الشعب» عند صدورها في الشهور الأولى للاستقلال اريد لها أن تكون صحيفة يومية بغية تحقيق تطور كبير وجديد في الساحة الوطنية التي لم تعرف طيلة تاريخها تجربة الصحافة اليومية إلا في الحالات التجريبية النادرة وحتى نعي أهمية هذا العنوان تاريخيا، نقل احمد حمدي ما قاله مسعودي زيتوني عن الجريدة الرمز عند صدورها حيث أكد «انه إذا كان يوم 11 ديسمبر قد رسخ في ذاكرتنا الجماعية كيوم مشهود من تراثنا التاريخي، خلدته المظاهرات الشعبية بالعاصمة، فإن 11 ديسمبر 1962 يعتبر ذلك يوما مشهودا بالنسبة لإحياء تراثنا الثقافي والاجتماعي، اذ انه يوم ميلاد اول صحيفة وطنية للجزائر الحرة الناطقة بلغة شعبها صاحب السيادة ألا وهي: صحيفة الشعب».
وانطلقت «الشعب» بمجموعة من الصحفيين الموجودين في وكالة الأنباء الجزائرية ومن الحكومة المؤقتة ممن كانوا يملكون الخبرة في الصحافة، كما أرسل فريق الى القاهرة بحثا عن التكوين والتأطير. ويذكر ان محمد الميلي الذي كان رئيس تحرير النسخة العربية كتب انه 1 نوفمبر كان التاريخ المبرمج لإصدار العدد الأول للجريدة، لكن مشاكل تقنية حالت دون ذلك، ليكون 11 ديسمبر شاهدا على ميلادها.  

مدرسة احتضنت أغلب صحفيي الجزائر

استمرت «الشعب» كناطق رسمي للمكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني الى غاية 19 جوان 1965، اين صدر قرار بتوقيف النسخة الفرنسية «ECHAAB» وتغيير عنوانها الى يومية المجاهد، لتواصل «الشعب» مهمتها في نقل الخبر برزانة وصدق بعيدا عن الاثارة، ففي 1972 أصدرت الشعب ملحقا ثقافيا هاما تحت اشراف الطاهر وطار. وكشف احمد حمدي في ذات السياق، انه من خلال بحث قام به تحت عنوان «الخطاب الأيديولوجي للصحافة الجزائرية من 1962 الى 1988» وجد ان فترة الحزب الواحد عرفت بحرية كبيرة في ابداء الرأي، حيث أظهرت دراسته لافتتاحيات كل من «الشعب» ، «المجاهد» و»الثورة والعمل» تنوعا كبيرا ونقاشا قد يصل الى التناقض، وقد كانت «الشعب» في تلك الفترة تعتبر الناطق الرسمي باسم الحكومة، أما «المجاهد» فالناطق الرسمي باسم حزب جبهة التحرير الوطني و أخيرا «الثورة والعمل « الناطق الرسمي باسم العمال، وقد ساهمت «الشعب» في طرح الكثير من القضايا الكبيرة ووضعها محل نقاش لذلك اعتبرها عميد كلية الاعلام والاتصال صورة حقيقية وصادقة عن الوضع السياسي للبلاد في تلك الفترة.
عن مراحل تطورها، كشف حمدي أنه كان تدريجيا من حيث الإمكانيات كان أوُجه في الثمانينات، حيث عرفت «الشعب» تطورا هاما في التجهيز، حيث تحصلت على مطبعة حديثة مجهزة بآلات التصفيف الضوئي وبتقنيات البث عن بعد ما سمح بتوزيعها في مختلف ولايات الوطن في نفس وقت توزيعها في العاصمة، الأمر الذي استدعى فتح مكاتب



بالإضافة الى اعتماد مراسلين لها تنقل الاخبار من المدن الجزائرية، لتصبح مدرسة بذلك احتضنت أغلب صحفيي الجزائر... تربوا داخلها وفي مختلف اقسامها وتعلموا على يد اطاراتها ابجديات العمل الصحفي.
أسماء بوزن أمة
 من  الأسماء اللامعة نجد الهادي بن يخلف، عيسى عجينة، حسان رويبح، محمد زهاني، محمد عباس، حبيب راشدين، محمد هواري  سعد بوعقبة، بشير حمادي، ما أهلها لأن تكون مؤسسة إعلامية ضخمة لها وزنها في الساحة الإعلامية استمرت في مهمتها بتفاصيل واختلافات متنوعة الى غاية 1988 اين دخلت مرحلة جديدة لم تعرفها الصحافة الجزائرية من قبل.

1988.. وجه للمجتمع بكل أطيافه

من الخطاب الحزبي من 1962 الى 1965 الى الخطاب الحكومي من 1965 الى 1988، تبنت «الشعب» بعد 1988 الخطاب التعددي فلم تعد معنية بنشر أيديولوجية معينة ولا ان تكون الناطق الرسمي للحكومة بل أصبحت جريدة عمومية تعبّر عن المجتمع بمختلف تفاصيله وأطيافه السياسية دون اقصاء لأحد، ورغم الصعوبات المادية التي عانتها في تلك الفترة الا انها استطاعت من خلال اطاراتها وأقلامها الصحفية الثبات وسط كل ما عرفته الساحة الإعلامية في تلك الفترة وتجاوزت وتحررت من كل تلك المشاكل التي لم تتمكن من طمس «العنوان الرمز».
المشهد الإعلامي في الجزائر منذ تلك الفترة احتاج الى كثير من الاحترافية، وقال احمد حمدي ان الاحترافية مسألة مطروحة للصحافة الجزائرية لأن المناخ العام ما زال في حاجة الى قوانين وضبط ولعله السبب الأول لبعض الانزلاقات التي جعلت كل من يريد ان يكون صحفي يستطيع ذلك دون تأطير او تكوين رغم ان هذا المجال خطير لتأثيره الكبير على الرأي العام، لذلك أكد في سياق حديثه إلى «الشعب» أنه من ضروري إلزام كل صحفي راغب في ممارسة المهنة بالتخصص في هذا المجال وتساءل عن الصفة التي تعطي تاجرا أو رجل اعمال الحق في اصدار جريدة ، لذك ـ قال حمدي - نحن بحاجة الى ترتيب البيت الإعلامي خاصة مع التطور التكنولوجي المتسارع الذي تغلّب على الإنتاج الإعلامي فمفهوم الصحفي تغير ولم يعد ذلك المتواجد في مؤسسة، وأي مواطن بإمكانه نقل الخبر او إيصال معلومة، لذلك لا بد من سلطة ضبط الصحافة المكتوبة يكون اعضاءها صحفيين غيورين على مهنة المتاعب.
اما جريدة «الشعب» 2018، قال عنها احمد حمدي انها تمشي برزانة وفيةً لمسيرتها كمدرسة صحفية تبتعد كل البعد عن الصحافة الصفراء تحاول من خلال عملها اليومي تبوأ مكانتها المرموقة في المشهد الإعلامي الجزائري بعيدا عن التهويل والسبق، ولن يتأتى لها ذلك الا بمزيد من الاحترافية التي تتم برسكلة اطاراتها خاصة في ظل هذه الظروف المتميزة بتدفق المعلومات والسرعة وتطور وتكنولوجيا سائل الاعلام وهو السبب نفسه الذي استدعى انشاء موقع الكتروني لجريدة «الشعب» يتماشى وهذا التطور والذي وصفه عميد كلية الاعلام والاتصال بأنه موقع يعكس مضمون الجريدة والرسالة الإعلامية التي تقدمها.

 «الشعب».. مهمة وطن

هي سطور وجدتها قليلة في حق جزء من الذاكرة التاريخية للجزائر الحرة المستقلة، جزء صنع فيه الفارق بجعل «الشعب» عنوانا للهوية الوطنية التي نفضت عنها غبار الطمس وقيود التغريب والاغتراب، ومن صفحاتها وعلى مدار 56 سنة حافظت على ثوابت الأمة ولم تحد عنها قيد أنملة ، قاومت بشراسة كل محاولات إضعافها أو إسقاطها في شرك اللهث وراء الربح المادي لأنها وإن تعاقبت عليها أسماء كثيرة منذ 1961 وعلى اختلاف قناعاتهم إلا أنهم اتفقوا في مهمة الحفاظ على دعائم المجتمع متماسكة، متناغمة ومتجانسة، بدءًا من محمد الميلي رئيس تحرير النسخة العربية في أول عدد لها وصولا إلى أمينة دباش الرئيسة المديرة العامة لجريدة «الشعب» منذ 2012 التي تعتبر أول امرأة تترأس إدارة وتسيير الجريدة لتواصل مسيرة من سبقوها في كتابة صفحات متجدّدة من المشهد الإعلامي يتلاءم والتطور التكنولوجي ليختزل القلم في كلماته مهمة وطن.