طباعة هذه الصفحة

«الشعـب» تقتفـي أثـر هجمات 20 أوت 1955

القصّة الكاملـة لـــــ «نوفمـبر الثّاني»

سكيكدة / مبعوث «الشعب»: حمزة محصول

معلـم تاريخي يعيـد الاعتبـار لمركز المؤتمـر التّحضـيري للعمليات

 

مجاهدون:حافظنا على الثّورة وضربنا فرنسا في مقتلٍ 

 زيغوت يوسف: «إذا سار معنا الشّعب ودعّمنا في هذه الثّورة سننال الاستقلال حينًا، وإذا لم يفعل فسيحصل لها (الثّورة) ما حصل للأوّلين (المقاومات الشّعبية)، أعلنوا أكثر من ثورة ولم يحقّقوا شيئا»

 زيغوت يوسف لم ينم على فراش.. ينام دائما على كرسي ويستفيق بمجرّد الدخول عليه

 «كان السّند للمواطن البسيط، يأكل ما يأكله الجندي، ويحرص ألا يظلم أحد».

قبل 65 عاما تلقّى الاستعمار الفرنسي ضربات موجعة على يد المجاهدين المدعومين بالبسطاء من المواطنين، بمدن وقرى ولايات الشّمال القسنطيني. كانت تلك الهجمات الفريدة تخطيطا وتنفيذا، حلقة مفصلية في تاريخ الثورة التحريرية المجيدة، واستحقّت عن جدارة لقب «نوفمبر الثاني». اقتفت «الشعب» أثر مجاهدين بجبال سكيكدة المجاهدة، وقادتها رحلة العودة إلى «20 أوت 1955»، إلى موقع «الزمان»، وهو اسم منطقة، أين جرى المؤتمر التحضيري للعمليات، مستحضرة وقائعها مع خيرة المجاهدين، الذين لازالوا يعيشون الحدث كأنه ماثل أمام أعينهم اليوم.

بعد أيام وليال من الاشتعال، انطفأت أخيرا نيران الصيف المفتعلة في الجبال الوعرة المنتصبة فوق دائرة الحدائق بولاية سكيكدة، دون أن تفلح في اقتلاع شجرة أو نبتة من جذورها، ولن يبقى رمادها الأسود جاثما على تربة، تستأمن نفسها منذ أزيد من ستة عقود، على حقائق وأسرار هجمات الشمال القسنطيني.
في ثغور هذه الجبال، وبين شعابها وداخل كهوفها وتحت جذوع أشجارها، لا زالت إلى غاية اليوم رفات الشّهداء ترفع بوقار ليُعاد دفنها في مقابر جديدة أنشأت خصيصا لهذا الغرض.
وتستعد السّلطات المحلية لإعادة دفن 64 رفات، في قادم الأيام، حسب المدير الولائي لمديرية المجاهدين وذوي الحقوق، مفتاح سربوح لـ «الشعب».
وقال سربوح: «الجزائر لازالت تدفن شهداءها..استرجعنا جماجم المقاومين الأبطال من فرنسا، ولازلنا نجمع رفات شهداء الثورة التحريرية لنُعيد دفنها».
لقاؤنا بالمدير سربوح، كان بداية رحلة عودة إلى وقائع هجمات جرت بعد عشرة أشهر على إطلاق أول رصاصة بجبال الأوراس الأشم.
لقد نفذت من أجله (الأوراس) ومن أجل الثورة التحريرية، ومع ذلك لازالت تنتظر رد الاعتبار الكامل من جيل ما بعد الاستقلال.
يبدو أنّ التاريخ الدقيق لهجمات 20 أوت 1955، بدأ يستعيد تدريجيا مكانه الطبيعي في الذاكرة الحيّة لسكيكدة وكامل المنطقة، فقد بلغت أشغال بناء معلم بموقع «الزمان» مكان اجتماع زيغوت يوسف بخيرة المجاهدين قبل شهر عن الساعة الصفر (منتصف النهار)، نسبة 99 بالمائة، حسبما ما لاحظناه مطلع أوت الجاري.

تخليد ذكرى الأحداث والشّهداء

الوافد إلى وسط مدينة سكيكدة، ومنذ ولوج حدودها الإقليمية، سيبدأ رحلة في تاريخ الثورة المظفّرة، فذلك الوفاء للشهداء الأبرار بتخليد أسمائهم في قرى وبلديات ومؤسسات، مثل رمضان جمال، صالح بوالشعور، رابح مطاطلة وبوشطاطة محمود، جدير بالتقدير والإعجاب.
وعلى طريق دائرة الحدائق المؤدي إلى وسط المدينة، لا تغيب عن الناظر، عند المنعطفات وفي التقاطعات، تلك اللوحات الإرشادية التي تحمل إسم «20 أوت 1955»..هناك لوحة «جامعة 20 أوت 1955»، لوحة «الشارع الرئيسي حي الممرات 20 أوت 1955» ولوحة «المركب الرياضي 20 أوت 1955».
في هذا المركب، وبالضبط عند الملعب، لازالت الجرّافة، التي كسحت ورفعت مئات الشهداء على طول المسافة بينه وبين ساحة الشهيد البطل ديدوش مراد، التي نُصّب بمحاذاتها تمثالٌ شاهقٌ من البرونز لنائبه وخليفته في قيادة المنطقة التاريخية الثانية زيغوت يوسف أوسي أحمد، كما يلقّبه رفقاء السلاح، حبيسة المكان كدليل على الجريمة النكراء.
المتحف الجهوي للمجاهد العقيد علي كافي، محطّتنا الثانية بعد مديرية المجاهدين، وفيه أطلعنا على قاعة عرض خاصة بهجمات الشمال القسنطيني، مخلدة بصور وخرائط.
من هذه الصّور، صورة الشهيد بائع المثلجات المُلقى على الأرض تحت عربته، بعدما اخترقته رصاصات جنود فرنسيين، وصورة قيادة الهجمات المستخرجة من الأرشيف الفرنسي وفيها: محمد الصالح ميهوبي، يوسف زيغوت، بولعراس بوشريحة، عمار بن عودة، زيغد إسماعيل ولخضر بن طوبال.
في صيف 2020، صعبٌ جدا أن تجلس إلى من رافق «سي أحمد» في تحضير وتنفيذ هذه الهجمات الفريدة، من المجاهدين، فمن لم يُدركه الموت أرهقهُ المرض، وازداد الأمر تعقيدا مع مخاوف نقل والتقاط فيروس كورونا..ومع ذلك كان لنا شرف ضمان لقاء مع أحد مرافقيه، المجاهد موسى بوخميس، بمساعدة إطارات مؤسسة مختصة في حفظ وصون التاريخ.

 كيف بدأت؟

يحدّثنا المؤرّخ ورئيس المجلس العلمي للمتحف، توفيق صالحي، في حوار خاص، عن أصل هجمات الشمال الشمال القسنطيني، «كفكرة انتقام»، و»كحتمية استراتيجية ببعد إقليمي ودولي» للثورة التحريرية.
يفيد صالحي أنّ زيغوت يوسف حمل في قلبه «ثأرا شخصيا»، لقائده ديدوش مراد، الذي أمره بحمل وثائق الثورة والانسحاب من معركة بوكركر، حيث استشهد، بعد قتال غير متكافئ مع العدو الفرنسي.
ولأن سي أحمد يدرك جيدا أنّ ديدوش ما كان لينكشف أمام جيش جرار للمستعمر، لولا تنقّلاته الكثيفة بين المدن والقرى والمداشر للتعبئة للثورة، «أراد إدخال المنطقة في حرب العصابات وحشد الطاقات الشعبية في العمل الثوري»، يضيف محدثنا.
ويؤكّد المتحدّث أنّه «منذ 18 جانفي 1955، تاريخ توليه زيغوت قيادة المنطقة الثانية، لم يتوقف عن التفكير والإعداد لعملية كبرى ضد الاستعمار، تلهب الثورة في الشمال القسنطيني ككل».
ورغم مكانته بين رفاقه المجاهدين واستجماع صفات القائد العسكري الفذ ودهائه السياسي، لم يتّخذ سي أحمد أي قرار دون استشارة وموافقة رفقاء السلاح من المجاهدين، وبالأخص قادة المناطق، مثل عمار بن عودة، لخضر بن طوبال، علي كافي، البشير بوقادوم، وصالح بوبنيدر، وغيرهم. وسيُخبرنا المؤرخ صالحي، لاحقا، عن دوافع أخرى وراء الرغبة الملحة في تنفيذ هذه الهجمات.

العودة إلى بوشطاطة

حين استقرّت الشّمس الحارقة في كبد السماء، منتصف النهار، غادرنا المتحف الفسيح، مُحكم البناء، متعدّد القاعات، بأرشيف ثريّ وبشهادات حيّة للمجاهدين، باتجاه بلدية محمود بوشطاطة (17 كلم عن وسط المدينة)، ومنها إلى جبل «الزمان»، مكان انعقاد المؤتمر التحضيري لهجمات 20 أوت 1955.
عُدنا إلى هذه البلدية بعدما تركناها خلفنا صباحا على الجانب الأيمن من الطريق الرابط بين جيجل وسكيكدة.
أمام مسجد القرية متلاصقة المباني، التي تُطوقها بيوت قصديرية، والمروج الواسعة والمُصفرة حولها، يلاحقك شعور بقساوة الجو، دون أن تدري، وأنت تستمع إلى ياسين شبلي الذي سيرافقنا، في الرحلة، مع المجاهد لوصيف لقمش ورئيس البلدية الأسبق رابح بوبعيو.
يقول ياسين شبلي، بحماس شديد وغيرة على الأحداث التاريخية الحاسمة: «إن رحلة يوم واحد لا تكفي لوصف الهجمات الخالدة والغوص في تفاصيلها»، ويُصرُّ على «أنّها نوفمبر ثانٍ، لم ينل ما يستحق من الإهتمام بعد الاستقلال».
مرافقونا، وبكرم، حرصوا على أن نستقل سيارتهم، لأن الطريق إلى «الزمان»، صعب لا يرحم المركبات المنخفضة، وبالفعل، ما أن تنعطف يسارا خارج الطريق الوطني، حتى يبدأ مسلك جبلي وعر، بإسفلت متهالك أتت على ما بقي منه حفر وحصى، على مد البصر..وكُلّما تجاوزنا مرتفعا مخلّفين وراءنا غبارا كثيفا، كلّما اتّسع مجال الرؤية، من علٍ، لمدينة سكيكدة ودائرة الحدائق.
لا يستوي هذا المسلك المتصاعد الشاق، إلا لينحدر على طريق ترابي نخرته مياه الأمطار، وتحاصره ثروة غبية تتهيأ لاستكمال تجديد ذاتها بعد حرائق مهولة أتت عليها العام الماضي.

المعلم المخلّد للمؤتمر

على مد البصر، يَعنُّ هيكل إسمنتي قيد البناء..إنه معلم أتعب «شأنه» مرافقينا، والأسرة الثورية بالولاية، وكان سنوات طويلة مطلبا ملحا على طاولة السلطات المحلية، ليتوّج الإصرار في النهاية بتسجيل المشروع وبداية إنجازه في الأسابيع القليلة الماضية.
«في هذا المكان بالضبط، أردنا بناء المعلم المخلد لـ 20 أوت 1955، هنا التاريخ الحقيقي..الشباب اليوم والشعب الجزائري يجب أن يعرفا موقع مؤتمر الزمان»، يؤكّد المجاهد لوصيف لقمش، بصوت قوي.
عندما كنّا نتقدم ببطء نحو الورشة، كان خلفنا مرافق آخر، هو لطفي بولسنان (شاب) رفقة والده موسى بولسنان، الذي أبى إلا أن يدلي بشهادته متحديا حر الصيف ومشقة الطريق.
ينتصب المعلم على قمة الجبل، ويفترش ساحة من بلاط أرضي يُطوّقُها آجر قرميدي صغير، تنغرز فيه أضلعُ سياج حيددي مزخرف، مشدود إلى بباب حديدي عملاق..
للمعلم ارتفاع شامخ بين عمودين متوازيين من الجير، يسنُدانه كأضلع متينة، ويفسحان المجال لرخامة صلدة ستُثبّت لاحقا على صدره، محفورٌ عليها نصٌ يخلد ذكرى المؤتمر التحضيري التاريخي.
وبلغ الإنجاز مرحلة نهائية وما هي إلا لمسات ويدشّن لاحقا.
الوقوف على قمة «الزمان» يتيح رؤية الولاية من جهاتها الأربع، ويُبيّن أن علُوها من علُو المستوى الفكري لمخططي الهجمات.
يقول المجاهد لقمش، الذي يرأس قسمة المجاهدين لبلدية بوشطاطة: «أفهمت الآن السر في اختيار المكان لانعقاد المؤتمر؟». وأشار إلى سفوح الجبال المحيطة: «أنظر..كل سكيكدة أمامك..كيف ما تحرك العدو سيراه جيش التحرير، وحتى في حالة انكشاف العملية سيكون الفر أسهل وأسرع».
وغير بعيد على الموقع، يوجد نبع مائي (عين) لم ينضب إلى غاية اليوم، بدليل أن أحد المواطنين استصلح حوله مساحة صغيرة، يزرع فيها بعض الخضار، ويعتبر لقمش أنه من الأسباب التي شجعت على اختيار هذا المكان «الاستراتيجي»، لتوفره على الماء والمؤونة.
 

تحضير عملياتي

قبل مؤتمر الزمان بأشهر، باشر زيغوت يوسف والمجاهدين الملتفين حوله التحضير لهجمات كبرى في الشمال القسنطيني، «ونفّذ عمليات مشابهة تقريبا، ضد الاستعمار الفرنسي يومي 08 ماي و05 جويلية 1955»، يقول المؤرخ توفيق صالحي، ثم يضيف: «جرب سي احمد في هذين التاريخيين الرمزيين (مجازر 08 ماي 1945 واحتلال الجزائر من قبل فرنسا 05 جويلية 1830)، خطته في مجال محدود قبل الاستعداد لهجمات أوسع».
وبعد أن تبلورت الفكرة، تقرّر تنظيم مؤتمر الزمان بدءاً من الأيام العشر (10) الأخيرة من شهر جويلية، بحضور أزيد من 100 مجاهد، حسب ما يؤكّده المؤرخ.
وتكفّلت عائلة يطلق عليها «دار يونس» نسبة إلى رب الأسرة المجاهد الكبير يونس رمضان، بإيواء المجاهدين وعملت على توفير المؤونة رفقة سكان من مناطق قريبة.وكان مع زيغوت يوسف، ضباط من كبار قادة المنطقة الثانية.

سريّة وتعبئة

 يشير المجاهد موسى بولسنان بيده إلى دار يونس، التي لا تبعد أمتارا قليلة عن قمة «الزمان»، ولم يبق منها إلا أطلال مستوية بالأرض.
عاد بنا بولسنان إلى مجريات المؤتمر وكيف أقيمت خطوط الاتصال مع مناطق الشمال القسنطيني من قسنطينة، قالمة، جيجل، ميلة، وعنابة، وقال: «القادة المجتمعون فقط من يعرفون تاريخ الهجمات، أما المناضلون فتكفّلوا بتعبئة المواطنين في القرى والمداشر عبر نقل ونشر رسالة زيغوت يوسف دون تاريخ الهجمات».
وتابع: «كل شيء تمّ بسريّة تامّة، كلف المواطنون بجمع وتجهيز أكبر قدر من الأسلحة، بندقية كانت أو فأسا أو بنزينا أو أية آلة حادّة يمكن أن تؤدي غرض القتال»، مفيدا أنّ «مواقع الهجوم اتّخذت ليلة الجمعة 19 أوت 1955».
وأشار محدثنا إلى أنّ المؤتمرين صادقوا بالإجماع على تنفيذ الهجمات، من أجل فك الحصار على الثورة في منطقة الأوراس التي حاصرتها فرنسا ولم تسمح بدخول كيلو ملح إليها، ومن أجل إثبات شرعية الثورة التحريرية وضحد مزاعم الاستعمار الذي يصف المجاهدين بالخارجين عن القانون.

أبعاد إستراتيجية

الصّعود إلى قمّة «الزمان» من طريق وعر ومرهق، وتسجيل شهادات المجاهدين بالمعلم المخلّد للمؤتمر التاريخي، دفعنا دفعا نحو فشل في الوفاء بموعد محدد مع المجاهد موسى بوخميس، وكان مُفترض بنا أن نصل بيته ببلدية أمجاز الدشيش في حدود الساعة الثالثة زوالا.
بعد أن تلبّدت السماء بغيوم و»كسرت» ريح باردة صمت «شمس الصمايم»، غادرنا الموقع على منحدر ترابي لا ينصح به لأصحاب المركبات، سمح لنا باختصار المسافة والوقت إلى بلدية بوشطاطة.
كان علينا، ودليلنا في هذه الرحلة، خالد شبلي، الذي كان والده «الضيف» من المشاركين في التحضير والتنفيذ لهذه العمليات، الإسراع للتوجه نحو أمجاز الدشيش، حيث يفترض أن يكون المجاهد موسى بوخميس في انتظارنا، رغم تخلّفنا عن الموعد المحددة بـ 3 ساعات كاملة.
بعد مسافة 15 كلم أو أقل قليلا، وصلنا مدخل البلدية، أول من سألنا عن منزل عمي موسى، شابين يافعين، دلّنا أحدهما مباشرة على منزله، ووجدنا كرسيا أبيضا شاغرا أمام بابه، «كان هنا ينتظر وغادر للتو ليقوم بجولته المسائية المعتادة ولكنه لن يطيل العودة»، يقول شاب من عائلته.
بعد دقائق أطلّ عمي موسى، يمشي باستقامة وشموخ ووقار، مسرعا، بعد علمه بوصولنا. فتح لنا منزله، وبمجرد معرفته بصعودنا قمّة «الزمان»، سحب عتابه الودي، وبعد إصرار على الاعتذار له، شرعنا في تدوين شهادته التاريخية الثرية.
يقول بوخميس، الذي عمل تحت إمرة زيغوت يوسف: «يخطئ من يقول أنّ هجمات 20 أوت 1955، كانت من أجل الاستقلال..لقد كانت من أجل تدويل القضية الجزائرية في الأمم المتحدة والرد على فرنسا وفك الحصار على الأوراس».
ويؤكّد رئيس المجلس العلمي للمتحف الجهوي للمجاهد العقيد علي كافي، أنّ زيغوت يوسف الذي يجمع بين الدهاء السياسي والتخطيط العسكري، اختار يوم 20 أوت الذي صادف يوم سبت، رسالة تضامنية مع الذكرى الأولى لنفي السلطان المغربي محمد الخامس. وأضاف: «زيغوت يوسف، كان يريد من الهجمات إعطاء زخم مغاربي للثورة التحريرية المجيدة، إلى جانب تدويلها وهو الذي تحقق، حيث برمجت القضية الجزائرية بعد أسابيع قليلة في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في سبتمبر 1955».
وعن رمزية توقيت منتصف النهار فيرى، ياسين شبلي، المُطّلع جيدا على تاريخ المنطقة، أنّها قصدت شيئا واحدا هو: «الجهر وإعلان الثورة على الاستعمار وأن الكفاح المسلح لم يعد سر..لقد سار المخطّطون على خطى النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي جهر بالرسالة النبوية بعد مدة معينة».
وقال عمي موسى أيضا إنّ الهجمات جاءت أيضا ردا على فرنسا التي كانت تقول: «إنّ هؤلاء (المجاهدين) فارون من السجون وسرّاق وقطاع الطرق»، وأفاد: «أردنا أن نظهر لها شيئا آخر، نغير على مقراتها وجنودها في وضح النهار، حتى تعترف أننا أصحاب حق نريد الموت (الاستشهاد) من أجل الوطن».

تسليم الثّورة للشّعب ومقولة زيغوت الحكيمة

عاد بنا هذا المجاهد الأصيل إلى التحضير العملياتي الذي سبق الهجمات، مؤكّدا أن القادة «عيّنوا 4 أو 5 مجاهدين في كل بلدية وتكفّلوا بحشد الشعب (أغلبية من الفلاحين) وتجهيزه بالأسلحة الممكنة وتحضيره للهجوم في تاريخ ومكان محدّدين». وأكّد أن هجمات 20 أوت، كانت لحظة فارقة في تاريخ الثورة التحريرية، جسّدت «فعليا» مقولة: «ألقوا بالثّورة للشارع يحتضنها الشعب».
وأوضح المتحدث أنّ زيغوت، العقل المدبّر للهجمات رفقة المجاهدين من كبار القادة والضباط، نجحوا في إقحام الشعب في الكفاح التحريري.
وكشف عمي موسى عمّا سمعه بأذنه من زيغوت يوسف، وظل راسخا في ذهنه إلى اليوم: «قال لي ذات يوم، إذا سار معنا الشعب ودعمنا في هذه الثورة سننال الاستقلال حينًا، وإذا لم يفعل فسيحصل لها (الثورة) ما حصل للأولين (المقاومات الشعبية)، أعلنوا أكثر من ثورة ولم يحققوا شيئا».
ومنذ نوفمبر 1954، راهن سي أحمد على دور الشعب في إنجاح الثورة، «فقبل الهجمات منع التدخين ليرى ردة فعل الشعب، كما دعا لإضراب لمدة 08 أيام فتبعه الشعب»، يقول عمي موسى.
ويضيف في شهادته بأنه يذكر جيدا كيف مكث زيغوت يوسف في قريته، شهرا كاملا سنة 1954، ينظم صفوف الثورة في الشمال القسنطيني، يُعيّن المسؤولين عن المناطق ويجمع السلاح ويشكل مجموعات المجاهدين من الشباب.
وممّا يذكره عن قائده «أنه لم يره نائما على فراش..ينام دائما على كرسي ويستفيق بمجرد الدخول عليه»، مضيفا أنه «كان السند للمواطن البسيط، يأكل ما يأكله الجندي، ويحرص ألا يظلم أحد».

ضرب 39 موقعا بالقرى والمدن

كان عمي موسى مكلفا رفقة مجموعة من الرجال، بالهجوم على مركز للجندرمة بسيدي مزغيش، لكن العملية لم تكتمل بعد تسرب المعلومة للاستعمار في الصباح الباكر.
وتوجه مواطنون مدجّجون بأسلحة نارية أو حادة، باتجاه مقرات القوات الاستعمارية ومزارع الكولون على الساعة التاسعة صباحا، بينما كانت العملية مقررة في منتصف النهار (12:00)، فتفطن الجيش الفرنسي وحصن المدينة بالدبابات.
لم تتمكّن مجموعة عمي موسى من الهجوم على مركز الجندرمة، وغيّرت خطّتها نحو إحراق محاصيل القمح والشعير، وقتل معمرين، لتتمكن من تجنب نيران الجيش الفرنسي والفرار وسط الدخان الكثيف، ومساء السبت، لترفع مثلما كل المناطق تقريرا مفصلا عن العملية إلى القائد زيغوت يوسف.
وقال المجاهد: «إنّ إحراق وإتلاف حقول ومزارع المعمرين، كانت بغرض إضعاف اقتصاد الاستعمار الفرنسي»، مضيفا: «لسنا متكافئين في الأسلحة، لذلك علينا أن نقوم بكل ما يضعف الاستعمار بما فيها الاقتصاد».
ويؤكّد المؤرّخ توفيق صالحي أنّ «الهجمات استهدفت 39 موقعا عسكريا واستيطانيا للاستعمار الفرنسي، بأزيد من 26 مدينة وقرية بالشمال القسنطيني».

الانتقام..

انتقم الاستعمار الفرنسي من سكان الشمال القسنطيني بشكل وحشي، وأخبرنا المجاهد بولسنان موسى بموقع «الزمان»، أن «فرنسا قالت: هم نظّموا 20 أوت، ونحن سنقتل 20 ألف منهم».
وبدأت القوات الاستعمارية الغاشمة بإطلاق الرصاص على الجزائريين، من وسط المدينة، وتصادف تنظيم الهجمات في منتصف النهار مع وصول سفينة تقل مسافرين جزائريين من المهجر، فانخرطوا في الهجمات، واستشهدوا في الشارع الرئيسي.
ومن كثرة جثامين الشهداء على الأرض وأنهار الدماء، اختارت فرنسا طريقة أبشع من الانتقام الذي مارسته، حيث أجبرت شخصا على قيادة جرافة وجرفهم عند مدخل الملعب، أين دفنوا جماعيا.
ويؤكّد المؤرخ توفيق صالحي أنّ عدد الشهداء أمام الملعب قدر بـ 1500 شهيد، وأن العدد الإجمالي للشهداء على مستوى الشمال القسنطيني قدّر بـ 12 شهيدا، 6 آلاف شهيد منهم (نصفهم) في سكيكدة وحدها.
وأفاد صالحي أن المؤتمر التحضيري للهجمات توقّع استشهاد 5 آلاف جزائري في هذه الهجمات، نظرا لاتساع نطاقها وتنظيمها لأول مرة في وضح النهار، أمام أعين السلطات الاستعمارية والمعمرين وأمام أنظار العالم.
وحسب شهادات المجاهدين بوخميس موسى، بولسنان موسى ولوصيف لقمش، استمرّ الرد العنيف للاستعمار الفرنسي على الهجمات أياما كاملة، حيث قتلوا المدنيّين العزل في المدن والقرى والمداشر، واستخدم الرصاص الحي والطائرات وأحرق المنازل والممتلكات.

الهجومات حقّقت جميع الأهداف

بالنسبة للمؤرخ توفيق صالحي، حققت هجمات الشمال القسنطيني جميع أهدافها، ويؤيد بقوة الرأي القائل بأنها «نوفمبر ثاني»، فقدت «أعطت انطلاقة جديدة للثورة، في وقت كانت السلطات الاستعمارية بصدد محاصرة المنطقة الأولى بالأوراس، وشرع حاكمها العام جاك سوستال في تنفيذ خطة سياسية وعسكرية للقضاء على الثورة». وقال إنّ زيغوت يوسف، بتدبيره لهذه الهجمات، أدخل الثورة من الباب الواسع إلى الشمال القسنطيني، حيث انتشرت وانتظمت في جيمع الولايات وبأسلوب قتالي أكثر تنظيما وتجهيزا.
وفي السياق، أكّد المجاهد بوخميس أن رهان سي أحمد على الشعب كلل بالنجاح، لأن «الرد الوحشي للاستعمار جعل كل من كان متردّدا تجاه الثورة، يتعاطف معها، وحصل فيما بعد انخراط تام في العمل الثوري المسلح»، ملمحا إلى ما قبل 20 أوت لم يكن أبدا ما بعده.
ويرى أن نجاح العمليات نتجت عن اقتناع الجزائريين بالكفاح المسلح وأصبحوا على درجة عالية من الإيمان به «وإلا كيف يحمل شخص سكين ويريد قتال جندي يحمل سلاح، أو يحاول إحراق دبابة لولا الوطنية وحب الوطن».
ومن نجاحات العمليات أن القضية الجزائرية برمجت في أجندة أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أربعة أسابيع من الهجمات، حيث اعترفت دول عديد بالثورة الجزائرية وأحقية الشعب الجزائري في تقرير مصيره، ويقول المجاهد لقمش إن «101 دولة اعترفت بالقضية الجزائرية بعد 20 أوت 1955».

 التّاريخ لا يُطمس

 زيادة على مشاعر الاعتزاز والتبجيل للهجمات التاريخية، من سكان سكيكدة، يبعث اهتمامهم الشديد بكتابة التاريخ «الحقيقي» للثورة على الإعجاب.
بالنسبة لهم، لا يعتبر السعي الحثيث لإقامة معلم تاريخي في موقع المؤتمر التحضيري للهجمات، مجرّد تمسك بذكرى غالية، وإنما «حرصا بالغا على تخليد التاريخ الصحيح والدقيق للثورة»، مثلما يؤكّده لقمش لوصيف.
لقد عبّر لقمش عن تجسيد المعلم بالقول: «أنعم الله علينا ببنائه، والتاريخ اليوم عاد لمكانه الأصلي»، ويختم لقمش كلامه بدعوة السلطات العليا في البلاد، بالمشاركة في إحياء ذكرى الهجمات في موقع الزمان، قائلا: «نأمل في المستقبل القريب، أن يحضر رئيس الدولة الجزائرية معنا هنا في احتفالية 20 أوت في بلدية بوشطاطة ولاية سكيكدة».
ويعتبر بوبعيو رابح، تشييد صرح تاريخي مخلد لذكرى عزيزة، «إعادة اعتبار للتاريخ وللمنطقة ولتضحيات الشهداء»، وأشار إلى تقصير غير مفهوم من قبل السلطات العمومية في العقود الماضية تجاه حدث «عظيم»، قائلا: «إن تنظيم أول احتفالات رسمية بالذكرى بهذه المنطقة، كان في 2016 فقط، أي بعد 54 سنة من الاستقلال». وتابع: «منطقة الزمان كانت مهمشة وغير معروفة رغم مكانتها في تاريخ الثورة، وبناء معلم إعادة للاعتبار لها ولتضحيات المجاهدين والشهداء».
ويدعّم موسى بوخميس، كتابة تاريخ الصحيح «للثورة الغنية بالمجاهدين والرجال الذين لازالوا على قيد الحياة..وعندما نكتب نأخذ الشهادات ممن عايش وحضر اللحظة والحدث وليس من سمع فقط». وأكّد تعرض هجمات الشمال القسنطيني وأحداث أخرى كبيرة من الكفاح الوطني التحرري للإهمال، وحتى التشويه عقودا، مرحّبا بشروع مؤسسات وزارة المجاهدين في تسجيل شهادات المجاهدين في السنوات الأخيرة.
وينتظر خرّيج مهنة التعليم ياسين شبلي، تعبيد الطريق بين بوشطاطة وموقع «الزمان»، لتنظيم رحلات لتلاميذ المدارس وطلبة الجامعة والسياح، حتى يطلعوا على التاريخ بأم أعينهم ولا يقرأونه في الكتب والوثائق فقط.