طباعة هذه الصفحة

علي الحمامي

العـــــــــالم الثائـــــــــــر

صادق بخوش

 

تعتبر سيرة علي الحمامي، أشبه ما يكون بمغامرة كائن أسطوري سرق النار من آلهة مفترضة، وأطفأ لظاها في دياجير البحار.

الجزء الثاني والأخير

- علاقة «الحمامي» بالزعماء العرب:

كان «الحمامي» على قدر عالٍ من إتقان لغة التواصل الإقناع، نظير ما حباه به المولى من تعدّد الألسن، وسلطة الكلمة كتابة وخطابة، الأمر الذي مكّنه من أن يمارس سلطة معنوية على محاوريه، فقد تعرّف على كبار الزعماء العرب في مطلع القرن العشرين من أمثال الزعيم محي الدين القليبي، والزعيم علي باش حانبة التونسيين، والشيخ الزعيم الجزائري الأصل، عبد العزيز الثعالبي وعبد المجيد بن جلول، وعلال الفاسي زعيم حزب الاستقلال، وهما مغربيان، وكذا أمير البيان الزعيم شكيب أرسلان، وشخصيات لامعة في مصر والعراق والحجاز.
   لقد ضاقت أوروبا ذرعا بهذا الرجل ، لاسيما ابتداء بسنة 1935، فلقي من دول الغرب الأوروبي صدودا وكراهية وملاحقة، وازداد خوفها منه على خلفية قيام الثورة البلشفية في الإتحاد السوفيتي، التي بدأ يتعاظم شأنها، ومن مآسي هذا الرجل أنه ظلّ مدة ستة أشهر  في سفينة بحرية إيطالية جوالا مكرها على أمره،  بحيث كلما اقترب من مرفأ عربي للنزول ببلد شقيق إلا وطرد منه، بأمر من دولتي الإجرام الاستعماري والطغيان العالمي، بريطانيا وفرنسا. وذلك بالنظر إلى سلطتهما على الأنظمة العربية الخانعة لصولجانهما، ولولا تدخل الزعيم الكبير شكيب أرسلان بما كان لديه من سلطة معنوية في البلاد العربية، لفني «الحمامي» في البحار والمحيطات ومكث في بطن الحوت إلى يوم البعث. وبعد أن أُذِن له بالنزول في منطقة الشرق العربي، راح متجولا في بلاد الحجاز، وسوريا، واليمن، وفلسطين، إلى أن طاب له المقام فاستقر بعاصمة الرشيد بغداد. وطفق بها يُدرس التاريخ والجغرافيا لمدة إحدى عشر سنة متتالية.

ـ لقاء الحمامي بالشيخ عبد العزيز الثعالبي:

 لا غَروة بأن الشيخ عبد العزيز الثعالبي، هو واحد  من كبار أعلام  نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ليس في منطقة المغرب العربي فحسب، وإنما على مستوى العالم الإسلامي كله. إن الثعالبي جزائري الأصل تونسي المولد، تخرّج من جامع الزيتونة، كان من مؤسسي الحزب الحر الدستوري التونسي سنة 1919، عرف عنه استبسَاله في معارضة الاحتلال الفرنسي والإنجليزي وغيرهما، اضطهد من قبل إدارة الاحتلال في تونس، ونفي عنها إلى أقطار إسلامية، فأقام بفلسطين ثم بالعراق ومصر، وتوفي عليه رحمة الله سنة 1944. إذ قلّ نظير الشيخ الثعالبي في ذلك العهد  من حيث فكره المتنوّر الحداثي، فجمع بين علوم الأثر على تعددها وتبحر فيها، كما أخذ بناصية روح العصر، فكان ذو رؤية متجاوزة لعصره فيما يعنى بعديد القضايا بما فيها تحرير المرأة، وإقامة نظم حكم ديمقراطية، والأخذ بروح الإسلام لا بقشوره في صياغة  مشروع أمة متحرّرة من نير الاستعمار ومن دروشة التخلّف والخنوع.
    وكان العلامة ابن باديس يحرص على حضور محاضراته، كما كل علماء ذلك الزمن ممن يقتدون بعلمه وبكفاحه الوطني، وقد كان من مقربيه وزملائه في الحزب، الشيخ توفيق المدني قبل نفيه من تونس إلى بلده الجزائر.
 ألّف الثعالبي عددا كبيرا من الكتب من أشهرها
«تونس الشهيدة» الذي ترجم إلى الفرنسية وهزّ أركان الذهنية الكولونيالية، فتداعى له كثير من العلماء بالتجاوب من المفكرين الغربيين والعرب، لما حواه من تصوير بليغ لفضائع المحتل الفرنسي، وجوره اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا على شعب تونس. ومن مؤلفاته أيضا موسوعة «معجز محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ»، وهو واحد من أدق مؤلفات السيرة العطرة لسيد الخلق. قال عنه في مقدمته:  
«أما بعد، فقد خِرت الله تعالى في عمل نافع مبرور، أدخره في صحيفتي ليوم النشور، ينتفع به المؤمنون ويسترشد به الحائرون ، فخار لي سبحانه وتعالى، أن أجمع هذا الموجز من السيرة الطاهرة النبوية، على صاحبها أتم الصلاة وأزكى التحية، وكنت أسلفته بسِفر مختصر من تاريخ الأمة العربية، فجاء بحمد الله إرهاصا لهذا الإعجاز».
 من حسن الصدف أن يلتقي «الحمامي» مع شيخ المصلحين، وزعيم الوطنيين ابن الجزائر البار الشيخ عبد العزيز الثعالبي، على أرض العراق وهما منفيان، فأعجب «الحمامي» بالثعالبي، واتخذه قدوة ومعلما، نظير وطنيته وعلمه الموسوعي، ونفسه القلقة الثائرة، بالرغم من تقدم السن به، وتكالب رموز الاحتلال عليه، من إنجليز وفرنسيين وإيطاليين ومن إليهم، ونشأت بينهما صداقة ما فصمها إلا رحيل الثعالبي إلى الرفيق الأعلى.

«الحمامي» في مصر مرة أخرى:

لما علم «الحمامي» بعودة رفيقه وقائده في ثورة الريف، الأمير عبد الكريم الخطابي من منفاه البعيد بعد أكثر من واحد وعشرين عاما قضاها في الأسر، جاء مصر سنة 1947، عندها ترك «الحمامي» العراق، ويمّم وجهه شطر القاهرة ليكون في صحبة رفيق السلاح المجاهد الفذّ، والقائد الذي قلّما يجود بمثله الدهر، وهو من أسس وقاد مكتب المغرب العربي في القاهرة، ليكون هذا المكتب العرين، الذي انطلقت منه انتفاضة تونس، والمغرب لنيل استقلالهما، كما كان لهذا المكتب دور بارز في اندلاع ثورة التحرير الجزائرية المباركة 1954. رافق «الحمامي» هذا الزعيم الذي كتب له مقدمة جامعة لروايته باللغة الفرنسية «إدريس»، وهي رواية  تاريخية حمّلها «الحمامي» في أسلوب شيق، وسردية ساحرة، مختلف هموم شعبه ووطنه، وفيها صبّ جام غضبه على مظالم ومفاسد الاستعمار.
مرة أخرى نتساءل عن أسباب إسقاط اسم «الحمامي» من قائمة القادة الجزائريين في القاهرة وفي غيرها، بالرغم من حضوره الكثيف عبر كتاباته في الصحافة باللغتين العربية والفرنسية، وكان يرسل ببعض مقالاته لتنشر في الجزائر؟ قد نجد بعض العزاء لهذا السبب في ما كان يقوله عن نفسه:
 «يكفيني من كل الدنيا أنني أردّد نشيد الحرية، وهو ما يهبني الحياة، فأنا لا أعيش لنفسي لحظة واحدة، بل ليس لدي وعي بذلك حتى، وإذا ما جال بخلدي مثل هذا الأمر، أحس بأنني أناني، بل لا أقدّر نفسي في عيون الآخرين، أقول بدون ريب بأني عشت لوطني، ومن أجل مواطني، وفي سبيل قناعتي وفكري، وكذا مثلي الأعلى الذي أعبده كما عبده أناس من قبلي إلى أن يأتيني اليقين من بارئي سبحانه وتعالى».
لقد عُرف عنه تواضعه، وكرهه للحذلقة والتظاهر، وتزكية النفس، إلى درجة كان لا يمضي بعض مقالاته باسمه، لأن ما كان يهمه إنّما أثر الكلمة والفعل والموقف في الحياة.

  مؤلفات «الحمامي»  

يعجب المرء كيف لهذا المشرد عبر القارات، بلا أسرة تحضنه، ولا وطن يأوي إليه، تماهى منذ طفولته مع الهجر والجهاد، والمغامرة وعدم الاستقرار، تلبس الوطن وقضايا أمته، وعاش في سبيلهما مضحّيا بكل شيء، ولكن على الرغم من ذلك فقد اكتسب علما غزيرا  وفكرا حصيفا وتبحر في تاريخ وطنه الجزائر وأمته العربية والإسلامية، فكان من رواد الوحدويين الكبار، بل والإنسانيين أصبح غدا حليفا، ورفيقا لكبار زعماء المقاومات الشعبية في العالم أمثال هوشيمنه وماو تسي تونغ.
إن المجال ليضيق بما يستوجبه القول عن هذه القامة الخالدة، لاسيما فيما دبجه يراعه من أدب وفكر نذكر منه بعض العناوين.
لقد خصّ «الحمامي» ثلة من رموزنا الكبار بأعمال علمية، غرف بشأنها من معين التاريخ، بمنهج ورؤية متصالحة مع الذات الحضارية، ومتحرّرة من إرهاصات المدرسة الكولونيالية للتاريخ، فهو بكل تأكيد ممن دعوا وعملوا على تحرير التاريخ، من لوثة الاستعمار الذهني، أداة ومنهجا ومحتوى، وليس غريبا عليه، أن يتخيّر رموزه عبر تاريخ بلاده بانتقائية مدروسة، تفيد كإجراء في إيقاظ الضمائر، وتحرير المهج، وهزهزة إرادة التحرّر والثورة، فكتب عن ابن خلدون بما يليق به من تحليل وتثمين لعقليته العلمية، وريادته في علم الاجتماع، وفهمه لحركة التاريخ، كما كتب «الحمامي» عن ابن تومرت هذا الوحدوي الكبير مؤسس أهم الدول في تاريخ الجزائر المسلمة وكتب عن شيخ المصلحين الكبار العلامة ابن باديس هذا الرجل الأمة، كما كتب عن الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية، والمقراني والأمير خالد، وعن الحاج علي ومن إليهم، ووقف إلى جانب كل المستضعفين في الأرض، كما لم يهمل «الحمامي» الاعتناء بنماذج عدة في نظم الحكم في العالم بما في ذلك الهند وباكستان ومصر.

-  الفاجعة:  

يعزى إلى الزعيم فرحات عباس، تكليف «علي الحمامي» بتمثيل حزب الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في مصر، وبصفته تلك، وكونه من كبار زعماء المغرب العربي، من قادة النضال الوطني الثوري وقادة الفكر، ولكونه مجاهدا سابقا في ثورة الريف، تم اختياره ليكون ممثلا عن الجزائر في أول مؤتمر اقتصادي إسلامي في كراتشي بباكستان، وقد قال بشأن هذا المؤتمر:
« لئن ذهبت إليه فإنما لأسمع صوت الجزائر للعالم، وأحسب أن هذه مرحلة البذر» وقد كان إلى جانبه في هذا الوفد الممثل للمغرب العربي رجال مرموقون، مثل الدكتور حبيب ثامر من تونس، ومحمد بن عبود من المغرب الأقصى.
لقد شنع الثلاثة في كراتشي بمنظومة الاحتلال، ودافعوا بشراسة عن حرية واستقلال شمال إفريقيا، وقد خصّ «الحمامي» الصحيفة الباكستانية الكبيرة «دوان» بحديث مطوّل، سفه فيه مزاعم فرنسا المحتلة، كما أفصح عن جرائمها التي ارتكبتها في ماي 1945، بالجزائر، وقد دعا باكستان إلى دعم المواقف الوطنية المناهضة للاستعمار في الجزائر، وكل أقطار شمال إفريقيا، وقد كان ممن أمضوا على الوثيقة التي تبناها هذا المؤتمر يوم 5 ديسمبر 1945، تحت عنوان
«التعاون العالمي من أجل السلم»، تماشيا مع فلسفة روح الإسلام في التعاون والسلام.  
 انتهى المؤتمر بتوصيات هامة، وقفل الثلاثة راجعين إلى مصر على أن ينزلوا بها يوم 13 ديسمبر 1949، ولما كانوا على متن طائرة باكستانية «داكوتا»، لم يفلح قائدها في اختراق مضيق بين جبلين شاهقين، فأصيبت الطائرة وتحطمت أجنحتها، وانهار هيكلها على الصخور، الأمر الذي استوجب البحث عن جاثمين شهدائها أكثر من اثنين وعشرين ساعة، وعوض أن يعود هذا النسر ورفيقاه إلى معاقلهم، لمواصلة نضالهم المقدس، تخطفهم الموت في السماء ، وفقدت الجزائر بذلك عالما، ومناضلا شهما، وفقدت القضايا العادلة في العالم محام جسور عن الحق والعدل.    
   ومن القاهرة أقلت طائرة جثمان «علي الحمامي» إلى الجزائر العاصمة، ليدفن في مقبرة سيدي أمحمد وقد شيّعه إلى مثواه الأخير، حشد مهول من الناس، وألقى فيه الشيخ البشير الإبراهيمي، تأبينية نعاه فيها بما يستحق من الإكبار والعرفان، وتوالى الخطباء أمام تابوته الطاهر، كل يفيض من معين ما عرف من فضائل عن الرجل وشمائل خالدة أبدا.
  تغمّده المولى بشآبيب رحمته، ونفع الجزائر بعلمه، وبنضاله وبقدوته.      

بعض المراجع:

 - Roman de Ali EL Hamammi  «Idriss»
- Ali El Hamami et la montée du nationalisme Algérien
الشيخ عبد العزيز الثعالبي: معجز محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الجزء الأول، دار الغرب الإسلامي.