بسكـرة.. ستون عاما فـي ظـل الحرّية

عبــق التاريــخ وإرث الحضـارات تطــّل نحــو المستقبــل

بسكرة: عمر بن سعيد

 ستظل شمس الحرية تعمّ ربوع الجزائر، منذ أن سطعت، منتصف ليلة نوفمبر الخالدة بسواعد الرجال والنساء وتضحيات الشهداء، بسكرة لم تكن الاستثناء، ولكنها كانت في الصدارة قبل وأثناء الثورة المباركة وبعد فجر الحرية، الذي ألهب أقدام المستعمر ليكون تاريخ 5 جويلية عيد استرجاع السيادة والكرامة.

شكلت منطقة الزيبان، منذ أن وطأت الأقدام الهمجية أرضها الطاهرة شوكة في حلق المستعمر، ولا تزال أحداث ثورة الزعاطشة، سنة 1849، حاضرة في سجل تاريخ المقاومة الشعبية وسلسلة المقاومات، التي دوخت جنرالات مثل ثورة سيدي عبد الحفيظ التي قتل خلالها الرائد سان جرمان قائد الحامية الفرنسية ببسكرة، وثورة العامري وغيرها.
بسكرة لم تكن جهاد السيف فقط، بل جهاد القلم والنضال الوطني، فقد أنجبت فطاحل من الشعراء والعلماء الذين تركوا بصماتهم في مشوار الذود عن القيم والمبادئ، ولم يثنها ثقل سنابك الخيل الاستعماري التي جثمت على صدور الجزائريين أرضا وشعبا من المحافظة على اللغة العربية لسانا وثقافة، وإرثا حضاريا عبر المدارس الحرة والمعاهد الشرعية.
بسكرة أثناء الحركة الوطنية اختارت أيضا أن تكون قاطرة، فقد احتضنت مقر المحافظة الحزبية لحزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية، وكانت تضم الزيبان والأوراس بقيادة المجاهد المرحوم محمد عصامي.
 وقدمت قائدين استثنائيين للمنظمة الخاصة وللثورة التحريرية بعد ذلك، وهما بن بولعيد وبن مهيدي باقتراح من المجاهد عصامي، وكان اقتراحه وثقته في محلهما، ويقول المجاهد في تصريح سابق قبل وفاته مسجل بالصوت والصورة «كلفني محمد بلوزداد باقتراح قائد للمنظمة الخاصة بالولاية الحزبية، ونظرا لشساعة مساحتها فقد اقترحت اسمين من خيرة مناضلي الحزب، وهما بن بولعيد وبن مهيدي لقيادة المنظمة الخاصة».

بسكرة توأم نوفمبر

كانت لبسكرة في التحضير لاندلاع ثورة نوفمبر 1954 ثقلا نوعيا، فقد ساهم مناضلوها في جلب السلاح تحت إشراف المجاهد محمد عصامي، وبتوجيه من قائد المنظمة المرحوم محمد بلوزداد،أبلغه إلى بسكرة المرحوم المجاهد احمد محساس، وتم تخزين 137بندقية بمنطقة الفيض سلمت للقائد الشهيد بن بولعيد قبيل اندلاع الثورة بأيام معدودة، وحسب شهادة محمد عصامي فإن تلك الأسلحة استعملت في الانطلاقة الأولى للثورة.
كان للمنطقة شرف التحدي، ليلة أول نوفمبر، سجلت خمس عمليات، بمدينة بسكرة من مجموع 32 عملية على المستوى الوطني، وقدمت ألاف الشهداء والقادة المتميزين أمثال بن مهيدي وسي الحواس وعمر إدريس ومحمد شعباني، وغيرهم.
 وتعرضت بسكرة لأبشع أنواع البطش والتقتيل، وما تزال الذاكرة الجماعية للمجتمع البسكري تتذكر مذبحة الأحد الأسود في 29 جويلية 1956 ذهب ضحيتها 300 مدني أعزل في مجزرة، لم تفرق فيها رصاصات العدو بين الصغير والكبير وحتى الحيوانات، ولكن بسكرة ومواطنيها استمروا على درب الحرية إلى غاية إعلان الاستقلال وطرد الإستعمار إلى الأبد.

   مقوّمات مهمة للانطلاق

بعد استرجاع السيادة الوطنية، لملمت بسكرة جراحها على غرار بقية أرجاء الوطن وانخرطت في مسيرة التنمية وحققت خطوات كبيرة، في مختلف المجالات. تمتلك بسكرة حاليا مقومات مهمّة في مجالات الفلاحة والصناعة والسياحة، لإنشاء بيئة استثمارية متميّزة، وذلك بما تتوفّر عليه الولاية من إمكانات طاقوية ومنجمية وبنى تحية، ومقدرات جغرافية وطبيعية وتاريخية متنوعة.
 فبسكرة بوابة الصحراء ومهد الحضارة ومركز الإشعاع الديني والوطني، تتوفر على الثقل الأكبر في إنتاج التمور، والمحاصيل الفلاحية الأخرى على المستوى الوطني.
تتوفر بسكرة على مؤهلات الإقلاع الاقتصادي، وهي مقبلة لتتحول الى قطب صناعي وفلاحي وسياحي يدفع حركة التنمية الى الأمام، ويغير وجه الحياة ومظاهرها وكذا ترقية الحركية الاقتصادية التي تشكل رافدا للاقتصاد، وهي تراهن على جذب الاستثمارات بما تزخر به من موارد طبيعية وبشرية.
 فهناك أفاق واعدة للاستثمار في الفلاحة والصناعات التحويلية، فهناك إنتاج وافر من التمور لاستغلاله في الصناعات الغذائية، وبسكرة القطب الصناعي الواعد تتوفر على كل العوامل المرتبطة بإنشاء مشاريع استثمارية صناعية. وتسعى لتحقيق «المعادلة الاقتصادية» التي تمزج بين حجم الإمكانات، وبين حركية الاستثمار وانعكاساته على التنمية المحلية وسوق العمل، والوضع الاجتماعي العام المحلي.

السياحة.. استثمار التاريخ

بسكرة قادمة من عمق القرون، ويُقال أن وجودها كتجمّع سكاني كان منذ حوالي 146 سنة قبل الميلاد، وقد تعاقب على أراضيها الرومان والوندال والبيزنطينيون والعثمانيون. هذا الإرث «الحضاري» هو قيمة تاريخية قابلة للاستثمار السياحي، لاسيما في الآثار المعمارية والمواقع الأثرية، إضافة إلى «المدن العربية الإسلامية»، والمعالم التاريخية الدينية والزوايا التي لها تاريخ عريق. ما يُشكّل ركيزة للسياحة الدينية.
واشتهرت بسكرة بحدائقها ومناخها الاستشفائي الذي دفع بشخصيات عالمية، في مجالات السياسة والأدب والفنون، إلى زيارة بسكرة والإقامة فيها. وبسكرة باعتبارها بوابة الصحراء، فإن تضاريسها متنوعة، فإلى جانب طبيعتها الواحاتية، فإن ثلاثة عشر بالمائة من مساحة بسكرة هي جبال، وثمانية وعشرون بالمائة سهول، وخمسين بالمائة هضاب، ونسبة تسعة في المائة منخفضات، إضافة إلى المجاري المائية التي اختفى بعضها مع مرور الزمن ومع «التحول المناخي».
تمتلك بسكرة هياكل سياحية عديدة أهمها فنادق وحمامات، إضافة إلى مناطق للتوسع السياحي عبر العديد من بلديات الولاية، واستفادت على امتداد السنوات الماضية من عديد المشاريع السياحية، من فنادق ومركبات حموية وترفيهية.
وما يُعزّز السياحة في بسكرة هو الفعاليات الدورية السنوية التي تُقام في مختلف المجالات ذات العلاقة بالسياحة كالصناعات التقليدية، والحرف والفنون التشكيلية وصناعات التمور والسياحة الواحاتية والفعاليات التاريخية وغيرها.

الفلاحة.. هويّة لها تاريخ

تُعرف بسكرة بتمور دقلة نور ذات الجودة العالمية، وهي الأولى وطنيا في إنتاج التمور، وتشتهر بإنتاج الخضر والفواكه وهي تحتل المرتبة الثالثة وطنيا في هذا المجال.
ولاية بسكرة هي ولاية فلاحية بامتياز، لأسباب عديدة من أهمها أن الفلاحة هي ثقافة ونمط حياة وليست مجالا حيويا وظيفيا فحسب، واتساع المساحة الجغرافية الفلاحية وخصوبة الأراضي، والتنوع المناخي الذي يتلاءم مع كثير من المنتجات الفلاحية، وتوفّر الموارد المائية السطحية والجوفية، إضافة إلى شساعة المساحات الرعوية.
ولعل القطاع الفلاحي هو الأكثر حيوية وحركية وانتعاشا، ويعرف تزايدا سنويا في عدد المستثمرات الفلاحية، وأيضا توجّه الشباب إلى هذا القطاع وتفعليه بالرؤية «الشبابية»، وترقيته بالوسائل التكنولوجية التي تساعد على الاقتصاد في الوقت والجهد وزيادة المنتوجات.
وهناك توجّهات جديدة في التعامل مع المنتوجات الفلاحية لاسيما التمور، بدأت تظهر استثمارات في مجالات مشتقات النخيل والتمور على حدّ سواء، فظهرت صناعة يُؤمل أن يكون لمنتوجاتها حضورٌ في السوق الوطنية والدولية مثل استخراج السكر من التمور، والشمندر السكري، وكذا الكحول الجراحية.

المناجم.. كنوز لا تفنى

تتوفّر بسكرة على ثروات طاقوية ومنجمية هائلة مُوزّعة عبر مختلف جغرافيا الولاية، ومن أهمّ هذه الثروات: المرامل، ومناجم الكلس والجبس والطين، ومناجم الملح والمحاجر.
وأسهمت هذه الثروات في ازدهار العديد من الصناعات التقليدية والحديثة، وقيام مصانع كبيرة في تصنيع الجبس والآجر والإسمنت. وتتوفر الولاية على مركبين للاسمنت 3.7  مليون طن في السنة، ومكن إنتاج المصنعين من تحقيق الاكتفاء الذاتي والتصدير نحو الأسواق الخارجية، إضافة إلى مركب الكوابل الكهربائية وغيرها من المشاريع الاستثمارية الخاصة، سلمت 27 رخصة استغلال لمشاريع إنتاجية سنة 2021.

بسكرة.. لا تعرف العطش

كما اشتهرت بسكرة، منذ القدم بمجاريها المائية العذبة، ويُقال إنها سُمّيت عروس الزيبان لكثرة أنهارها ووديانها. وإن تكن هذه الأنهار قد اختفت ولم يتبقّ منها إلاّ الأثر، أو بعضها تعود إليه الحياة مع الأمطار، فإن بسكرة تتوفّر على ثروة مائية سطحية وجوفية هائلة.
 وقد تأسّست على الثروة المائية مشاريع استثمارية عديدة كالحمامات الاستشفائية، إضافة مصانع المياه المعدنية التي صار لبعضها شهرة وطنية كبيرة، ويُنتظر أن تقوم مشاريع استثمارية أخرى عبر مختلف مناطق الولاية في مجال استثمار المياه المعدنية للمنابع الطبيعية.
كثيرة هي مجالات الاستثمار في ولاية بسكرة، وعديدة هي المُقومات التي تُؤمّن البيئة الاستثمارية الملائمة، إضافة إلى عناصر التحفيز والتشجيع التي التي من شأنها ترقية الاستثمار، والانتقال ببسكرة لتكون قطبا فلاحيا وصناعيا وسياحيا.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19448

العدد 19448

الأربعاء 17 أفريل 2024
العدد 19447

العدد 19447

الثلاثاء 16 أفريل 2024
العدد 19446

العدد 19446

الإثنين 15 أفريل 2024
العدد 19445

العدد 19445

الأحد 14 أفريل 2024