طباعة هذه الصفحة

اجعل الأرض شاهدة لك

يا من ملأت بطنك بالمال الحرام تذكر أنك ستقف أمام الله

نقف اليوم مع سورة من سور القرآن، مع سورة ما أكثر ما نقرؤها في صلواتنا ونوافلنا وما أقل ما نتدبر فيها، مع سورة تهز القلوب الغافلة، وتزلزل القلوب القاسية الجامدة، وتأخذ الناس أخذاً من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، هذه السورة كلماتها قليلة، ولكنها تحمل من المعاني ما يخشع لها الجبال وتهتز لها القلوب في الصدور، هذه السورة نزلت على نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة، وهي في أسلوبها تشبه السور المكية، لما فيها من أهوال وشدائد يوم القيامة ما يبهر العقول، ويحرك مكامنها، هذه السورة هي: سورة الزلزلة ولنسمع إليها وهي تتحدث عن القيامة وأهوالها، والآخرة وشدائدها، وما يكون فيها من أحداث وأهوال، قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾.
 في هذه السورة يخبرنا ربنا جل جلاله عن موقف عظيم، ويا له من موقف صعب، ويا له من منظر مهول، الأرض،الجماد الصامت، التراب الذي تمشي عليه سوف ينطق ويتكلم بلسان فصيح يوم القيامة، ليكون شاهداً لك أو عليك، يشهد بكل ما رأى من المعاصي والذنوب، وكذلك يشهد بما حدث عليه من الأعمال الصالحة، إنه منظر مرعب ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ أي إذا حركت الأرض تحريكا عنيفا واهتزت بمن عليها اهتزازا يقطع القلوب ويفزع الألباب كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾الحج: 1-2  إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ أي إذا لفظت الأرض ما حوته من جثث الخليقة وألقت ما فيها من الموتى... يومها سيقوم الناس بين يدي الله، فيحاسبهم على أعمالهم وعلى الصغيرة والكبيرة.
 فيا من ملأت بطنك بالمال الحرام تذكر انك ستقف أمام الله! ويا من لبست على جسدك من اللباس الحرام تذكر انك ستقف أمام الذي لا تخفى عليه خافية!، يا من جمعت المال من الحلال والحرام اعلم ان الله سيحاسبك! يا من أكلت حقوق الناس تذكر ان الله سيعيد لكل ذي حق حقه! يا من فعلت المنكرات تذكر انك ستقف أمام الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور!
ستخرج من قبرك يوم القيامة حافياً عرياناً، لا نعال في قدمك، ولا ثوب يغطي بدنك. ولا شيء يسترك... تخيل ذلك اليوم في المحشر.
هذه السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تحدثنا عن ذلك الموقف العظيم فتقول: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)) ومعنى غُرْلاً: أي غَيرَ مَخْتُونِينَ..قُلْتُ: يَا رَسُول الله، الرِّجَالُ وَالنِّساءُ جَمِيعاً يَنْظُرُ بَعضُهُمْ إِلَى بَعْض؟! قَالَ: ((يَا عائِشَةُ، الأمرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يُهِمَّهُمْ ذلِكَ)).وفي رواية: ((الأَمْرُ أهمُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعضُهُمْ إِلَى بَعض)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ عبس:33-37.
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ ان الإنسان قد شهد الزلازل والبراكين من قبل. وكان يصاب منها بالهلع والذعر، والهلاك والدمار، ولكنه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبهاً بين زلزال الآخرة وزلزال الدنيا..لذلك نراه يتساءل: ما الذي جرى؟!، وما الذي حدث؟! إن الأرض كانت آمنة!! وكانت هادئة!! ما الذي حول أمنها إلى اضطراب؟! ما الذي حول سكونها إلى زلزلة؟! ما الذي حدث؟! فترد الأرض عليهم وتقول: إنها أوامر الله! إنها إرادة الله! ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾.
 ما معنى ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ اسمعوا إلى معنى هذه الآية من فم نبينا الذي لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى يقول سيدنا أَبو هريرة - رضي الله عنه -: قرأ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ الزلزلة: 4  ثُمَّ قَالَ: ((أتَدْرونَ مَا أخْبَارهَا))؟ قالوا: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: ((فإنَّ أخْبَارَهَا أنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلّ عَبْدٍ أَوْ أمَةٍ بما عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ: عَملْتَ كَذَا وكَذَا في يَومِ كَذَا وكَذَا فَهذِهِ أخْبَارُهَا)) رواه الترمذي، وَقالَ: ((حديث حسن صحيح)).
نعم ستتكلم الأرض بأمر من الله ستقول: فلان شرب الخمر مع فلان، فلان ذهب إلى الفجور والزنا، فلان لم يعمل في عمله بأمانة، فلان سرق من أموال الناس، فلان غش في بيعه، فلان ظلم، ستشهد عليك يا ابن ادم، ستشهد على كل معصية فعلتها عليها، وستشهد كذلك لأهل الخير بالخير ستقول: فلان سجد عليّ وبكى، فلان تلا كتاب الله، فلان سعى إلى المساجد، فلان نصر مظلوما، فلان تصدق على الفقراء... ستشهد لأهل الطاعات بطاعاتهم، ولذلك اسمعوا إلى وصية أبي الدرداء الصحابي الجليل وهو يقول: (اذكروا الله عند كل حُجيرة وشجيرة لعلها تأتي يوم القيامة تشهد لكم)، وهذا ابن عمر (رضي الله عنهما) يقول: (من سجد في موضع عند شجر أو حجر شهد له يوم القيامة عند الله). وقال عطاء الخراساني: (ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة، وبكت عليه يوم يموت).
- وقال يزيد بن الكميت: قرأ بنا علي بن الحسين في عشاء الآخرة ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يفكر ويتنفس، فقلت: أقوم ولا يشتغل قلبه بي، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم قد أخذ بلحية نفسه وهو يقول: «يا من يجزئ بمثقال ذرة خير خيراً ويا من يجزئ بمثقال ذرة شر شراً أجِر النعمان عبدَك النار وما يقرب منها من السوء وأدخله في سعة رحمتك». قال: فأذنت فإذا القنديل يزهر وهو قائم، فلما دخلت قال: تريد أن تأخذ القنديل؟ قلت: قد أذنت لصلاة الغداة! قال: اكتُم علي ما رأيت).
 هكذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يعيشون مع هذه السورة كانوا يتذكرون بها الآخرة، فأين المسلمون من هذه السورة ومن أهوالها العظام؟...